عن لبنان: بلد المميزات العجيبة


هو البلد الذي كبرت على كل ما فيه من جمال وتنوع طبيعي و مهاترات غير طبيعية عن كون هذا البلد هو "قطعة سما" و كونه صنيعة إلهية لا تتكرر. حسنٌ: لبنان بلد أكثر من جميل وطقسه رائع و مناظره خلابة, ولكن ذلك كله لا يتعدى كونه رماد على جمر لا ينطفئ, فكل الميزات اعلاه لا يمكنها ان تستمر او تقاوم ما جُبل عليه اهل لبنان و قاطنوه "تاريخياً" من ميزة خاصة ومميزة و فعلاً لا شبيه لها في العالم_قديمه و حديثه_ وهي الاندفاع الى المغامرة بهذا اللبنان بكل ما فيه من ميزات و مناظر سياحية وضيافة واغاني و اصناف مطبخ"يتبين مع الوقت ان لبنان يشترك في كافة صنوفه مع دول الجوار:فلسطين المحتلة وسوريا, مهما سُدت انفس الكارهين"

اذا, فما الفصل الاخير من حفلات التبويس و التهنئة والتوافق المُدعى الا حلقة في سلسلة مستمرة من "الضحك عاللحى" بحسب المثل الشعبي. فهذا اللبنان صاحب الباع الطويل في تاريخ الحروب الاهلية و"الاشكالات" الداخلية التي تودي كل مرة بما لا يقل عن مئة شهيد, هذا اللبنان يعيد اهزوجة الانفراج المقنع بكل ما يمكن التقنع به من تطمينات و ضمانات واهية بينما اسباب الازمات كامنة تحت رماد الاتفاقات كجمر ينتظر النفحة الطائفية او السياسية او الاستزلامية المقبلة ليندلع حريق اخر بمسمى اخر لن يغلب اللبنانيون في اختراعه.

بعد سان كلو و لوزان و الطائف والخ الخ الخ من تسميات الاتفاقات اللبنانية التي شهد عليها العالم , طوله بعرضه, يأتي هذا الاتفاق الاخير في الدوحة. ويتجاهل المهللون و المطبلون والمزمرون من كافة اصقاع لبنان والمحيط والوفود الشقيقة و النصف الشقيقة و التي بعض سلاحها وتمويله قتل من ابناء هذا اللبنان ما لن يعد بعد في ظل هذه "الفرحة", واولئك الذين ظلوا يعطلون حلاً لبنانياً غير ممهور بدم الابرياء الا بعد ان فرضت قوى الامر الواقع واقعاً جديداً بسواعد مزينة بالسلاح و الشعارات الغير مفهومة تماماً. كل هذه الزمر من المقامرين بدم اللبنانيين لا تخجل من الاستهزاء بعقولنا, نحن الذين علينا ان ندفع من اعصابنا و من ارواحنا ثمن كل هزة امنية و سياسية يتعرض لها البلد , ونحن الشهود دوماً على تعريصهم السياسي بالبلد و ما قد يكونه هذا البلد بدونهم. هم انفسهم, نفس الوجوه الكالحة تقريباً, نفس الطقم الذي اتفق سابقاً في مدينة او اكثر على خلاص لبنان (ما أشبه الدوحة بالطائف و ان بشعور اقل بياضاً و بتعنت اكثر صلافة), ويريدون منا ان نصدق انهم تابوا عن اللعب بدمنا!!

ليس اغبى منهم اساساً سوى من يصدقهم و يشتري كلامهم المنمق بإحتمالات حياته و مستقبل ابناءه. ويبدو لي ان الغباء السياسي و الحول المبدأي ميزتان لبنانيتان لا يؤتى على ذكرهما في معرض تعداد المفاخر الوطنية.
ما علينا: الاتفاق الاخير كيس زبالة اخر يصنعه اللبنانيون بكل فخر "ليعرموا" به على مزبلة التاريخ بكل ثقة. الاتفاق من اوله الى اخره عبارة عن حل مؤقت لدرء انفلات الوضع الامني مما قد يُنتج غالباً و مغلوباً و هذه صيغة لا يمكن للكيان اللبناني الهش ان يتحملها و لا يمكن لمحيطه كذلك التعامل مع نتائجها. لذا يتم لملمة الوضع على اعلى مستويات التدخل الدولي و الاقليمي فعلى ما يبدو ليس ثمة من مستعد في العالم للحاق بوليد جنبلاط و سمير جعجع في دروب مهاتراتهم العسكرية و الحربجية القديمة بعد هذه المرة. اما عن تلك"المعارضة" فقد قلت مسبقاً رأيي
فيها وفي مطالبها .واحمد من له الحمد"عقلي و ضميري" اني لست اليوم في معرض الانقلاب عن مواقف مبدئية و ثوابت اخلاقية تملي علي ان لا اقف مع اي سلطة ضد اخرى مهما عظمت او صغرت. السلطة الوحيدة التي ادين لها و بها هي سلطة العقل و الضمير, ولأني اضع روحي تحت قوس عدالتهما فعليّ ان اقول كلمتي الآن, سيذكر بعضكم_زوار مدونتي المعظمة_ اني اعيش حياتي بكل تفاصيلها عملاً بمقولة"قلها ومت", وها أنا مجدداً اغرد_او انشز_ خارج سرب الوفاق والتوافق و ما الى هنالك من اشتقافات للفعل الثلاثي "وفق" و المستخدم بكثرة هذه الايام.
وبالعودة الى موقفي من "المباوسة الوطنية" كما اسماها الرفيق احمر انذاك (من سنة و نص تقريباً بحسب تاريخ التدوينة: بيروت مدينة والتعليقات عليها)
موسم المباوسة الوطنية يُفتتح بإتفاق من مقوماته الاتفاق على رئيس توافقي هو قائد الجيش اللبناني الذي نعيش هذه الايام_للمصادفة الساخرة_ ذكرى تدميره لمخيم نهر البارد وقلبه رأساً على عقب.وعدا عن كونه رئيس من خلفية عسكرية,و العالم يضج بالشواهد المثيرة للاهتمام عن ديموقراطية وانفتاح و تسامح العسكريين السابقين,هو رئيس ماروني, اي هو يمثل فعلياً احد اقل الطوائف عددياً في لبنان.

اتفاق من مقوماته العودة بنا الى مجاهل القرون الماضية وما قبل الديموقراطيات عبر قانون انتخابات الستين الذي يتوزع فيه اكلو جبنة لبنان انفسهم منذ تلك العصور ما بقي من لبنان الذي تناهشوه ببراعة قل نظيرها حتى اليوم في نماذج السياسة الغابرة و الحداثية و ما بعد الحداثية في العالم.

اتفاق ينهي حكومة "السارق والخائن و العميل و القاتل" ليأتي بجديدة لا تختلف عنها الا في حصص السارقين و القتلة و الخونة.
كل هذا التعريص و الدجل المكشوف وعليّ ان اهلل لخلاص لبنان؟

في مصر يستخدمون تعبير شجب سوقي هو "آحا", ولكل لبنان بطاقمه السياسي المتمرس بالتعرصة وكل ما انضم اليهم في حفلات عهرهم الوطني مؤخراً من دول و شخصيات ما كان لها سابقاً هذا "الشرف" العالي والمتعالي على دم ابناء مئة اسرة لبنانية لم تفرح بالاتفاق كثيراً بالأمس, تماماً ك 17 ألف اسرة لبنانية لم يُبرد اتفاق الطائف سابقاً حرقة قلوبها على ابنائها المفقودين.
لكل اولئك "آحاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا"
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

ولحزب الله الذي يمثل رأس حربة مقاومة المحتل الصهيوني و كل اذنابه (ومنهم جنبلاط و جعجع و السنيورة ونايلة معوض و بيت الكتائب و قوى المستقبل الغير مسلحة و التي تبحث بحسب رئيس كتلتها النيابية عمن"يضم الجراح" لأن احداً لم يُحفِّظُهُ تعبيراً اخراً يردده كببغاء غبي في مؤتمره الصحفي), لقد اخطأت يا حزب التحرير و المقاومة وهزيمة اسرائيل بالانجرار الى لعبة قذرة لن استغرب ان تكون سوريا قد رمتك فيه لتحرق ورقتك داخلياً في المفاوضات_والتي للصدفة البالغة الدلالة_أعلن عنها بين سوريا و الصهاينة في اليوم التالي مباشرة لاتفاق الدوحة و قبل ان يجف حبر التواقيع على اوراق الاتفاق الواهي الذي يمكن من الان فتح بازار المراهنات على مدة صموده بوجه التغيرات في المعطيات و الامزجة و تبادل الموقعين لمواقعهم على الساحة الداخلية و الدولية بين حلفاء و اعداء.

لحزب الله وعليه عتب كبير بحجم احلام عالية مثلها هذا الحزب بصلابة مواقفه من الصهاينة ومن لف لفهم: لقد حاول السيد حسن اقناعنا طويلاً ان عدم تصفية عملاء الصهاينة في جنوب لبنان اثر انسحاب الصهاينة و تركهم لاذنابهم اللحديين هو فعل راقٍ, وبعضنا صدقه. و لكن اولئك العملاء المتروكين كحبل على غاربه شجعوا المزيد من النفوس الضعيفة على العمالة و النتيجة كانت دم ابناء لبنان في حرب 2006 التي سهل العملاء نزيفها كثيراً. لقد دفعنا نحن الناس ثمن حسابات اخلاقية غير ضرورية انذاك من دم احبتنا و اهالينا, واليوم بأي عين ستقابلنا يا سيد حسن و انت تضع دمنا و دم الشهداء المنضمين اخيراً الى السابقين بسبب توجيه داخلي لسلاح لطالما حلفنا بشرفه موجهاً الى الصهاينة؟ اليوم مصافحات للعملاء و الخونة و سارقي دمنا والانكى القبول بحكومة تشارك فيها بحزبك المقاوم تحت رئاسة السسنيورة اياه؟ وغداً ماذا يا سيد المقاومة و هاديها؟

الاتفاق الرباعي في انتخابات العام 2005 مع جنبلاط و جعجع كان غلطة و اعلنتها كذلك, وكان ثمنها تعقيدات سياسية و امنية طالت سنوات في البلد, والبعض رضي بتراجعك وحزبك ورائك عنها. اليوم ما الذي ستقدمه لتمحو عار الاتفاق مع العملاء و الخونة و السارقين على دم اهل بيروت و الجبل الذي تمت استباحته عبر الشاشات , وكل ذلك بلا ثمن موازٍ حقاً لنصاعة دمهم؟وتقول لنا ان علينا ان لا ننكأ هذه الجروح انت ايضاً؟ حسنٌ : لا انت و لا نحن سننكأها, ولكن من سيضمدها اصلاً في قلوب اهاليهم و احبتهم الذين "انخربت بيوتهم" حتى "يتعمر لبنان"؟

لا التفت في عتبي هذا الى متضاغرين و صغار يمصون دمنا في ازمنة السلاح و سواها(مشاريع "الرئيس" السنيورة الاقتصادية التي انهكت البلد منذ ايام الحكومات الحريرية الاولى _الذي تغزلت بشهيدها طويلاً ياس يد حسن في خطابك الاخير مع انه مص دمنا و دم المناطق المحرومة التي اغلب جماهيرك فيها_الى ما لن ندري ترقيمه من حكومات حريرية او على الدرب الحريرية تبشرنا بها تواقيع الدوحة الموافقة تماماً و تلك المتحفظة) ولكني اقف طويلاً عند موقف حزب الله و اقول بأسف حراق"يا حيف"

بعض مناصري حزب الله و كل المنضوين تحت لوائه(قناعة او ركوباً لموجة المرحلة) يهللون ان الاتفاق حماية لسلاح المقاومة. حقاً: قد يكون الاتفاق كذلك فعلاً, وهو عضباً عن كل انتقاداتي نصر كبير للخط الذي يمثله حزب الله ومن يواليه سياسياً. و هو بلا شك صفعة كبرى بوجه امريكا و حلفاؤها في المنطقة, وهي صفعة سيتردد صداها عبر العالم و ان بأشكال اخرى. ولكن: من متى تحتاج المقاومة في العالم الى تغطيات رسمية و اذونات حكومية؟ومنذ متى صار المنتهج لخط المقاومة و مؤيده بحاجة الى شهادات حسن سير و سيرة وطنية كالتي تقدمها يا سيد حسن صبحاً و جهاراً للحريري الاب؟
رحمات الالهة وكل الارباب على روح ناجي العلي, الرجل استشهد على حد طلقة ما هادنها و هو يقول: الطبيعي ان تكون وطنياً و ما سوى ذلك هو الخطأ. ولتلعن الشياطين روحي حية و ميتة اذ اعلنت تساؤلي في التدوينة الابقة الذكر اعلاه: منذ متى صار الواجب واختيار الضمير امراً يستحق الالتفات اليه؟

وهل باتت المقاومة عاملة بالفاعل عند الحكومة اللبنانية حتى تتطلب الاتفاق عليها واعتبار الامر شأناً قومياً؟ اي كذبة هي هذه يحاول حزب الله تضليلنا بها؟ ان اي مقاومة في العالم لا تطلب غطاءً و لا موافقة من احد اصلاً, وهذه المقاومة تحديداً بدأت رغماً عن انف العالم وتحت سقف مراهناته بأنها لن تستطيع ان تأتي شيئاً بوجه الصهاينة, ومع ذلك فقد أتت ما لم يأتيه غيرها او مثلها يوماً.

كل هذا الدجل يا حزب الله؟ سأظل أشد اقصى نقاط البياض في المساحة المعتمة التي تبدو امام لبنان واقول "لعل و عسى" فما من فضيلة اعلى من الامل العنيد احياناً, ولو ان التجربة تعلمنا ان الامال بلبنان اخر هي امال خائبة اجمالاً

واما بعد, بعد الحكومة الجديدة والاتفاق و الحب الاخوي الذي هبط مباوسات وطنية تمتد من الدوحة الى بيروت,شعب واحد ما بيموت"عذراً فقد جرفتني الحماسة الوطنية و الاعلام المرفرفة و الحمام المتطاير كثيراً مؤخراً", الآن: ما الذي لدى متباوسي و متوافقي الدوحة يقدمونه لنا كمواطنين و قاطنين في هذا البلد العجيب من اصلاحات اقتصادية و تنمية تطال كل المناطق التي لم يوفر القلق ولا الاهمال المستشري تاريخياً اياً منها على مدى عمر الجمهوريات المتعاقبة على "لبنان الكبير"؟ سيكون علينا ان ننتظر و نرى الخطط الاقتصادية و الاجتماعية العبقرية التي يمكن لاتفاق يرمي حراماً مثقوباً على فوهة بركان ان يأتي بها لبلد اشد ما يحتاجه هو ان يبقى فيه بعض ناسه كي يبقى...

للعلم و التذكير: وصلت حدة المعركة الداخلية اللبنانية الى اقصاها في يوم الاضراب الذي دعا اليه الاتحاد العمالي العام شجباً للغلاء و تردي الاوضاع المعيشية في لبنان. فهل انتبه او ينتبه المهللين والفرحين ان عليهم ان يعودوا الى واقع مر و صعب بعد انتهاء سادة السياسة و الارزاق من حفلاتهم الوطنية الوفاقية عما قليل؟

أصلي لها


ثمة مناطق في ذاكرتي, في روحي, في كلي لها رائحة الدهشة و التوق الغامر. لها وقع يشبه الاغاني التي تطلق في الجسد زغاريد الرقص فينطلق يلتوى و لا يلوي الا للفرح الغريب.لبعض هذه المناطق ثمة كلمات اخطها هاهنا بعدما انحفرت في روحي على مدى ايام عمري القليل امام افتتاني بها,و ابدأ صلواتي بإسمها"حيفا"
حيفا
هي نقطة ارتكاز كوني الاخرى: عالمي يولد على خط الملح و النار الطالع من قلبي ليدفئ الكون بالأمل العنيد"صور_حيفا", وهذه صلاتي لحيفاي اليوم, ككل يوم

اليوم ايضاً الفل افتتح صباحي و ترحمت على روحها البيضاء, جدتي ام محمد. كانت لتفعل ذلك ايضاً في حيفا لو كنا في حيفا اخرى غير حيفا هذه , حيفا الزمن القاسي.

يا حيفا: انتِ التي العالم ينقسم الى ما قبلك و ما بعدك. فلا تاريخي هو يوم الولادة في كانون, ولا بداية الجغرافيا نقطة تراب بين قدمي او خط طول او عرض على خريطة. حيفا هي كل البدايات عندي. بداية الوطن والحب و الحنين و الموت المتقدم في الايام حتى اكتمالها به "على ارضها".

حين هاتفني مهند من حيفا ذات برد ابيض كقلبه, وحسدتها انه فيها, أسمعني صوت كلب يلاحقه بالعواء, خجلت ان اقول له اني احسد الكلب انه في حيفا. قلت له أن يصف لي كل ما حوله فأرى الى حيفا بعينيه, وانسال صوته من الهاتف رقراقاً كماء الدمع الجميل الذي كان يندي عيون جدتي حين كانت تحكي لي عن بيتها البعيد في حيفا. لم أقل لمهند يومها أني في زمن حرب الصيف الأخيرة كنت _وبأنانية و جنون مطبقين_ اتمنى ان تقصف المقاومة حيفا أكثر من غيرها لكي تأتي صور حياتها في التلفاز أكثر. كنت اتعلق بالشاشة حين تُبث الصور و التقارير منها و عنها كمن "يتشعلق" قلبه الغريق بإحتمالات الموت بقشة ترد فيه بعض الروح. حيفا في قلبي, وحيفا على الشاشات حين تُقصف: بلى هو الجنون ان اتمناها في خط النار كي اراها بعيني انا ايضاً بعدما حفرتها جدتي في الحكايا وشماً على قلبي.

الآن يا مهند: حين تقرأ هذه الكلمات, عدني ان لا تسمح لدمعة بأن تنزل من عينك, فقد بكيتها عني و عنك مطولاً مع كل صورة من حيفا أرسلتها و صورتها وخزنتها في ذاكرة عينك قبل ذاكرة الكميرات.أنت عليك ان تفتح عينيك على وسعهما لتعب لي من جمالها اقصى ما تستطيع.

يا مهند: حيفا التي تقولها تشبهني بكل ما يحيق بها من خراب وتظل على فطرة فرحها الطفولي الأول, حيفا تلك أكتب لها الآن, أصلي لها واهف عليها بروحي, ولكني لا استطيع ان احظى بها و لو كصورة. لقد انكفأ القصف عنها, وانكفأت هي عن التشكل فيّ.

قل لها, قل لها انت الساكن فيها ان الأعوام الستين تمعن في حنين مستحيل اليها, قل لها اننا لا ننسى, وان البلح في مطبخ دار سيدي الذي لا تجده بسبب تضارب الاوصاف, لا يزال مشتهى كقدر. قل لحيفا يا مهند اني احسد كل ما فيها على انه فيها, حتى الصواريخ التي سقطت عليها ناراً حسدتها. ذات حق: سأصل الى الصاروخ المرتحل اليها بدمي وأكتب عليه لها رسالة حب, وستحترق مرتين باللهب : لهب ناره, ولهب الاشتياق.

قل لها ان تغفر لي جنوني, ما عاد سوى الجنون يأتيني بها صورة في شاشة حتى آتيها, و قل لها اني حتماً سأتيها, فجدتي التي تحت جلدي سمرة عنادها مشتاقة كذلك, والفل يريد نصاعة صباحها.

للذي صار قلبي بيته

توطئة, قد تكون غير لازمة

هذه كتابة خارج العقل, تندلع من وسط القلب تماماً و لا تصب الا في مدى يحاول ابتلاع عويل روحي بالفراغ منذ ما يزيد عن 17 سنة. لا اريد تعليقات هنا من نوع"اعقلي" و "الله يرحمه". أنشر هذه الكتابة لأني متعبة من حمولي وبحاجة لاستراحة محارب من الشوق المزمن و الاحتياج الفادح, والحب الذي لا ينصفني لحظة على"القضاء و القدر", أنشرها رغبة مني بأن أقول لي اني صرت اقدر قليلاً على اتخاذ قرار بخصوص حالة التعلق الممض باللاشيء الذي أسمه الغياب

::

لأبي عينين تختلط فيها الألوان, له فرح ينتشر مع صهيل ضحكته التي لا تفارق رناتها ذاكرتي ولا زوايانا الخاصة. لأبي لقب ادعوه به "بابا", ولكنه شاخ و كبر و تغبر من قلة الاستعمال و بؤس اليوميات التي ما عاد فيها

لأبي كل الشوق "اللي ما انقال", له الكثير مما أحسه و لا اعرف ان هو اصلاً قابل لأن يُقال.

له بابا, هذه الكتابة التي احتاجها لاتصافى قليلاً مع ذاكرة لا تعتقني الا الى شوق يزيد
حين عدت الى لبنان في اجازتي الاخيرة, شرعت اسباباً للجميع, لماما ايضاً صدرت نفس منظومة الاسباب المقبولة ربما. لم أخبر احداً اني ما كنت لأغيب عن ذكرى رحيلك انت ابداً. لست احتمل العالم يا بابا كل يوم بدونك, فكيف في يوم غيابك الذي يظل يعود أقسى كل مرة؟
قبرك لم يزل كما هو: رخامة باردة لا تشبه دفء روحك, الاحرف تفقد سواد حبرها تدريجياً كما ذاكرتي تفقد بعض ملامحك بمرور الايام الطويلة يا بابا.
17 سنة وبضعة اشهر!!!! نتعب لو أردنا العد يا بابا: 17 سنة؟ كيف تستطيع ان تقترف فينا كل هذا الغياب؟

هل الاستكانة الى تلك الرخامة المصفحة ضد الدموع و الشوق و الحراق من المشاعر اهون من ان تكون معنا و بيننا؟

حسنٌ, لن احكي كثيراً عن الاخرين جميعاً: غسان و علي و ماما و عماتي و عمومتي و الاصحاب. ولن احكي عن بخل الاماكن العامرة بذكرياتنا بمساحات اخرى لذكريات مختلفة.
سأحكي عني يا بابا: عن "ملوكة, ام الكوك, كوكي, ام الملاليك, ملوكتي" وبقية لائحة الاسماء التي كنت تتفنن في اختراعها لتدللني. سأحكي قليلاً عما يهز الروح فعلاً يا وليد واذا انت تعرف و تسمع و ترى و تحس كما احاول ان اقنع نفسي دوماً منذ غبت, فأتمنى ان يتسع قلبك الغالي لبوح متأخر و لكنه ضروري ومهم قدر الانفاس التي صارت تشق علي كذلك.

يقولون في صور حين يعرفون من ابي"الله يرحمه" و اتقوقع في غضب وقهر: وانا من يرحمني؟
الله منشغل عني برحمتك انت و آلاف الذين يميتهم يومياً كونه مخطط و مسير و علام الغيوب. ولكن انا من يرحمني من كل هذا الطوفان الجنائزي الذي لا يتحول "روتينياً" ابداً؟

يا بابا: ايضاً مجزرة اخرى في اخر مرة سمعت فيها اخباراً, في غزة قتلوا اماً و ابناؤها الاربعة. عندما سمعت الخبر عادت الى رأسي مباشرة صور مجزرة جناتا, انت يجب ان تعرفها: فماذا تراك تفعل بكل وقتك الطويل في الموت؟ ارجو انك لم تتغير يا بابا و انك لا زلت وفياً لمتابعة الاخبار, فلا يمكنك ان تكون قد تسببت بإصابتي بهذا اللوثة لتشفى منها انت!!

في جناتا قتلوا تلك الأم التي كان تعد افطار اسرتها في رمضان, رمضان يا بابا, شهر غيابك بالتقويم الهجري. ما أخبث الموت مع احبة مثلك: لم يختر لك توقيتاً قابلاً للتجاهل, توقيتك بتوقيتين: آذار و رمضان, فلا يمكن ان تمر ذكرى غيابك مرة, بل مضاعفة كل عام.
اترى: كل شيء يحيلني عليك؟ افكر بالمجازر, تطلع لي بذكرى تخصنا, اهرب الى واقعي, اجدني اشبهك فيه, حتى في المرض: أكتشف يومياً كم اود ان اشبهك أكثر يا وليد, ربما هي طريقتي في الحفاظ عليك ناصعاً من غبار النسيان الذي يزحف على كل شيء فيحيله الى ما يشبه الهباء الذي كان للحظة و اندثر. اريد ان ابقيك فيّ ما استطيع يا بابا
اين يكون الله يا بابا عند الموت؟ أيرسل عزرائيل بدبابة و قذيفة و مدفع و يتفرج؟ واين رحمته؟ اتنزل حقاً على الاطفال الذين يمزقهم الموت الذي يرسله اليهم عبر رسوله العجيب؟ هل الاطفال بحاجة لرحمة من اي نوع و هم بعد اطفالاً في عمر ما قبل الخطايا و الذنوب؟
آآآآآآآآآآآآآه يا بابا: قل لله عني اذا ما كانت روحك فعلاً تصله انه يبدو لي غير عادلٍ بالمرة احياناً, ولم التجمل؟ لا يبدو لي عادلاً في اغلب الاحيان, ولكني احاول ان ابقي على الاحتمال بوجوده قائماً, لا لأجلي, بل لأجل ان يرأف قليلاً بقلوب احبها وتحبها
هل انت تحبها تلك القلوب بعد يا بابا ام نسيتنا جميعاً؟
اتذكر مشاويرنا؟ ضحكنا؟ احاديثنا و افراحنا يا بابا؟ اتذكر فيروز"الموسيقى التصويرية لكل ذكرياتي معك"؟

بالأمس, حين ذهبت احج الى فيروز عليّ اجد في شدوها حداءً لروحي التي شد ما تحتاج نوماً طويلاً هانئاً و جميلاً كوالٍ في قصر النوم, أمس ايضاً كنت معي. لا فقط بذكرى ضحكاتك و احاديثنا "الفروازية" بحسب قولة ابو الغساسين, كنت انت كذلك حين كانت انفاسي تضيق بي و اكاد اغص بروحي المتمرجحة بين الاصوات و الكلمات و صورة عتيقة لرجل وصمني بالكثير مما انا عليه ثم رحل الى غيابات اظل اسأل عما فيها مما يغريه بالبقاء فيها بعيداً عنا

يا بابا: يقولون اشياء كثيرة عن الموت والحزن المرافق للغياب الذي يبداً كبيراً ثم يصغر بعكس كل شيء اخر يكبر من صغر, يقولون اننا ننسى يا بابا. يكتبون في مديح النسيان وقوة الانسان على التقدم اكثر الى ايام خالية ممن يعطونها اي معنى حقيقي. يقولون و احاول ان اصدق, ولكن هذا الاحتياج, هذا الشوق المزمن الذي لا يتماثل للنسيان او التصاغر, هذا كله ماذا افعل به يا بابا؟

هل تستطيع حقاً ان تسمعني يا وليد؟ لقد تغير صوتي, صرت طويلة وقررت السمرة ان تفرد ملامح شقاوتها على جلدي. عيوني حين اكحلها تصير اشبه ما يكون بماما التي كنت تغني لها"ما بتعرفي شو بيعملو في العيون السود يا ام الجوج", اسمع موسيقى كنت لتحبها انت كذلك, ألتهم كتباً انت قرأتها واخرى كنت لتحبها لو قدر لك ان تقرأها.
صرت"كبيرة" يا بابا. كم كنت مسكونة بهذا الهاجس منذ صغري. كنت اقول لك اني اريد ان اكبر بسرعة, كنت تستمهلني في الاكل_لم ازل على عادة الاكل بسرعة بالمناسبة_ وكنت اقول لك اين اكل بسرعة كي اكبر بسرعة اكثر. يا طويل البال و جميل الروح يا انت احاول ان استحق كوني ابنتك البيولوجية اضافة الى انتمائنا الواحد و الاكيد الى عائلة كبرى اسمها "الانسان". اريد ان اشبهك كثيراً لأن ذاكرتي المخاتلة تحيلني على مشاهد صارت تغيب فيها صورة وجهك و تحولات الضحكة في عينيك. ألذلك أحاول ان ابقيك اعلى من مشاهد الغياب بالتواجد على كل ملامحي و تصرفاتي و شخصيتي؟

اتدري بابا؟
كنت لتحب شخصياتنا: انا و غسون و علوش. نضحك كثيراً يا بابا, كلنا نشبهك في هذه. انا لست بمهارتهما في الاضحاك مثلك, يلقيان نكاتهما بشكل مسرحي يجعل كل من يسمعهما يصخب بالضحك. اضحك لهما من كل روحي, انا و غسان "نتخانق" حتى مسنجرياً. أكاد ألمح وجه علي حين نعقد اجتماعات قممنا عبر اثير الانترنت_سمعت بهالاختراع بالله؟_ ونختلف انا و غسان و يحاول ان يكون حكمنا عبر الضحك و المزاح.في"العيلة" حين نجتمع, نحول المواقف الى ضحك بضحك, وجودنا الثلاثة معاً في اي حفلة كفيل بإشعال الدبكة و الكثير من الرقص. "نحب الحياة" على طريقتك يا بابا, لا على طريقة سياسيي لبنان طبعاً. نحبها لأنها بعد ممكنة و متاحة وواجبة حد الموت. "مهضومة" الافكار التي نطلع بها يا بابا, و"الهضامة" عامل اساسي في اختيارنا لصداقاتنا و كيفية قضاء اوقاتنا. غسان ضحكته تشبهك بشكل باعث على البكاء, تبكي عماتي حين يرونه, واصحابك ايضاً يدمعون حين يأتي بما يشبهك فيه تماماً. نأكل بأصابعنا الخمسة مثلك, نمسك اقلامنا مثلك, توزعنا عاداتك يا بابا: انا احب الشاي و نومة بعد الغذاء, غسون يحب صور مثلك لدرجة مقيتة احياناً, علوشي الذي لا يذكر عنك شيئاً يتصرف كأنه ينسخك انت في بعض المواقف, في وقفته حين يمل مثلاً. و كلنا نجوم في التعامل مع الناس, طبعتنا بهذه الخصلة في خريطة جيناتنا يا وليد. كلنا ممتاز في دراسته ويعمل بجدية و استقامة, في هذه نشبهكما معاً: ام الجوج و انت.
لن نفتح سيرة ماما هنا, تلك حكاية شرحها يطول يا بابا. ولكنها حكاية تستحق ان نسردها ذات احتياج لبوح آخر. هذا البوح هنا تأخر و طال و تشعب, ولكنه بوح عن 17 عاماً طويلة.

اتعرف: يحلو لي ان اظن دوماً انك قادر على التواجد معنا وبيننا حتى لو لم نشعر بوجودك الفعلي. لو ذلك حقيقي و ممكن لوجب علي ان ارمي كلامي اعلاه مع هبوب الريح لتره و تنشره في اصقاع الارض اذ لا حاجة به و لا له. ولكني اشك انك تستطيع سماعنا و الاحساس بنا. في لحظات البكاء الطويلة حين اكاد اموت اختناقاً بغصاتي و ارجو انك موجود معي وبقربي بطريقة ما, لا اشعر بك.بدأت اخيراً اقتنع بأن ما أحسه صار نهائياً ويقينياً كأنه الاشتياق: احس انك خلفت الفراغ ظلاً لك و مضيت.

لم تعد الصور تجمعنا يا بابا, منذ زمن طويل غبت عنا: لا الذكريات مكتملة بك ولا الاغاني هي الاغاني و لا طعم الاشياء هو ذاته كما كان بحضورك. و لكن كل شيء تغير, وبحكم العادة صارت الاشياء غير قابلة للسوأل. حين رأيت عزة في حضن ابوها امس سرحت اليك. فكرت اننا كنا لنرتكب هذا الوصال الحميم الوحيد الذي احبذه علنياً نحن ايضاً. كنت ايضاً سأجلس قربك وانظر اليك كأن ليس سواك في العالم الآن يا بابا. يفرحني مرأى الناس على هذا القدر من الفرح البسيط والعالي معاً بأنهم موجودون و بكامل الحب الممكن و المتاح بين اب و ابنته. اقول ان الدنيا لها طرقها الغريبة احياناً في جعلنا نرى الامور بطريقة اخرى. حين انادي والد عزة "بأبو عزة" و يفخر, اقول انك كنت لتفخر كذلك لو نوديت بأبو ملاك. اشعر بأني ممتنة للصدف التي تضعنا في مواجهة اشياء بعيدة و غريبة ربما, ولكنها ضرورية لفهم انفسنا اكثر.

كففت يا بابا عن محاولاتي ان اتحايل مع الاشتياق اليك, محاولاتي لترتيب عالمي بشكل اقل تعلقاً بك, وبطريقة لا ترهقني بكل الحزن المرصود على اسمك المسكون بالغياب, كلها محاولات فاشلة و مكرورة و عقيمة. اكتشف مع الوقت ان ذلك غير ممكن, سيظل الاشتياق موجوداً و سيظل حضورك مدوياً لأن غيابك مدوٍ. اقيس الحضور بفداحة الغياب يا بابا.اتدري كم كان دمع عمو عادل حراقاً حين تحدثنا عنك في لقاءنا الاخير في صور؟ كنا نرى بيته الجديد و اشم زهر البستان و اتصبح بمرآى البحر معه حين قلت له فجأة اني بدأت انسى شكلك. واني حين اشتاقك اركض الى صورة ما لك ثم انط الى مرآة ما لأتأكد ما اذا كان فينا اي شيء مشترك بالشكل. اشتاقك و لا اعرفك يا بابا: اي نكبة هي هذه يا حبيبي؟
افضل ما قد يمكن هو ان اصالح اشتياقك, و اتفق مع غيابك على مساحات مغايرة لذكريات اخرى لا احرقها بتوقٍ مستحيل لوجودك فيها. انت صرت ابعد يا وليد من ان ألمسك بذكرياتي انا رغم كل محاولاتي ان ألونها بزيتون عينيك و قلبك الفواح بالمحبة كحديقة.

هذه الكتابة التي بدأت منذ يومين برغبة بوح يثقل قلبي وروحي اردتها لأقول لك انت وحدك, انت تحديداً اني احتاجك رجلي الذي يمكنني ان ألقي بروحي بين كفيه و ارتاااااااااااااااااااااااااااااح, هذه الكتابة يا بابا تحولت الى قرآن اقرأه علي و عليك لمرة وحيدة و من ثم أطلق سجادة صلاة اسمها اشتياقك. وأعود لأتعب وحدي.

آن لك يا وليد ان تذهب مني حقاً. 17 سنة و انا اراك كما في اخر صورة: تعدني بأن توقظني في الصباح لنفطر معاً كعكاً بحليب و عليه سكر_ يا لقلبك السكر يا بابا_ و تأخذني الى المدرسة.
والحقيقة ان الدنيا تغيرت , ونحن كبرنا, و ما عدت اذهب الى المدرسة بمريلة و دفاتر فجة النظافة و الشقاوة. لقد فوتنا موعدنا يا وليد,انت رحت في موعد مع الموت و تركتني احاول ان لا افوت موعدي مع الحياة. و آن لي ان اخذ طريقاً اخرى لا احاول ان أجبرها على ان تأخذني اليك . آن لي ان اترك لمسيري ان يحدد الدرب, هذه المرة بدون اوهام قديمة بطول عمر الغياب الذي يكاد يبتلع اكثر من ثلثي عمري الكامل.
سيكون عليّ ان اكون مستعدة لأن أسمع الخطوات الفريدة لقدمين واثقتي الخطو تمشّيان "ملاكاً"_ لا ملكاً وليعذرني الشعر_ وحدها.
لقد اتعبني الالتفات المستمر لأتفقد وجهك قرب وجهي, ما عاد ضرورياً هذا كثيراً. سأطلق موال غيابك في مدى اخر كان يجد ربي ان ألتفت اليك فيه وحده فقط, مدى ضيق وحميم ورحب كفاية كي يظل يحبك , ومدى كبير بمساحة تكفي كي أظل ممتلئة بك تماماً. وجهك سيكون دوماً قربي, بعيد فقط بمسافة قلبي

فقط بمسافة قلبي يا بابا: حبيب قلبي