صباح الخير يا بلادي

منذ الأمس و إنا اقرأ في ملف جريدة الأخبار عن نكبة فلسطين الستينية. اقرأ قليلاً و أبكي كثيراً , ثم أعاود القراءة من جديد.

في عملي, يراني رئيسي الفلسطيني دامعة, ويمازحني زميل من جنين قائلاً بأن عليّ ان اهون على نفسي فالدمع لا يفرش الأرض بدعوات العودة الملحة.

يقول لي ان البلاد ليست بلاداً, بل هي جهنم تحرق كل من فيها ومن يقترب منها. "حبها غلّاب" أقول له.

_علي ايش بس افهم؟ و لك انتي الله تاب عليكي بأنك لبنانية , ليش تدوري ع وجعة الراس؟

اشعر بحاجتي للبكاء تتعاظم. اريد ان اهرب من المكتب و من جو الاستغراب الذي ينكر عليّ مشروعية مشاعري.

**

أعاود القراءة ,وأفكر.

أفكر بالقرى و المدن التي هُجر أجدادنا منها, كيف تطلع عليها صباحات ما بعد النكبة؟
كيف تحتمل أرضها دوس أقدام العابرين فيها إلى انشغالاتهم الأخرى بينما تحترق قلوبنا و أقدامنا في انتظار خطانا فيها بعدما طال بنا الخطو إليها؟

أفكر بالناس الذين قص صليب فلسطينيتهم ظهورهم و ما قصم هامة إيمانهم بأنهم ذات يوم يعودون, ربما جثاميناً وأكفانا, ولكنهم يعودون.

أفكر بالمواسم المتروكة لحصاد آتٍ لم يجئ.

أفكر بالإغراض المتروكة على وعد لقى يأتي بعد أسبوع, ولا ينتهي الأسبوع بعد 60 عام.

أفكر بأن فلسطين غيرت مفهوم الوقت و بدلت في وظيفة الساعات.

فلسطين ما زالت تنتظر أسبوعها الذي ماد به الوقت, ولم تتغير و لم تتبدل في بعض ناسها تبديلاً.

**

أفكر بوجه الحاج إسماعيل ذات حنين. يوصيني و حفيده بالدراسة "لتعمروا البلاد". نسكت كلانا إكراما للحظة وفاء يؤديها ضمير هذا الرجل الذي تلاقفت عمره المنافي و ما أراد سوى الموت على ارض بلاده.
يمر الصمت ثقيلاً في اللحظات المعلقة على أهبة الذاكرة,ثم يعاجلنا الحاج إسماعيل"أمانة لا تنسوا البلاد, لا تنسوا البلاد". ثم يداهمنا معه الدمع الذي لا يعصى حيالها و أمام سطوة حضورها الباهر: ذاكرة وقعت أو ذاكرة مُشتهاة.

**

أفكر بالرجال الذين إلتقيتهم العام الماضي في مخيمات اللجوء في لبنان اثناء تظاهرات النكبة ال59 التي تحاول ان تحيّ همة الرجوع في المنكوبين بالهجرة من بلادهم مرة,و بحياة اللاجئين المُرة ألف مرة.
كانوا يجلسون أمام ما بات مصطلحاً على تسميته بيوتاً, ينظرون إلينا بعيون ملؤها دمع عتيق. في العودة من مقبرة شهداء مخيم البرج الشمالي شمال صور, أمر وصديقة اجنبية بكاميرا مُدلاة من رقبتها بجمعة منهم,يكشون الذكريات و الضجر عن حاضر يتكرر بوقاحة لا تُحتمل.
أحييهم وأسألهم عن قراهم, يحكون ويحاولون ان يحددوا لي بالحكي مواقع نكبتهم الاولى على خريطة مفترضة محفورة في قلوبهم و عيونهم. يداهمني الدمع والخجل امام باذخ الاشتياق الذي يفر من اصواتهم, ابكي على مرآى من عيونهم التي تحرس حزني بالدهشة, وأمام ذهول صديقتي التي لم تعرف كيف تداريه او تداويه سوى بأن تشرع كميرتها لتجمد لحظة كهذه في اطار.

**

أقرأ مزيداً.

أقول لي: ها أنتِ على الدرب ذاتها مع كل اولئك الناس الذين تطلع من صبرهم الحالك شمس النهار. معاً نصنع الانتظار من أمل ومن عناد, ونعطي للكلمات معانيها الأكمل.
ونتعب قليلاً, نتعب كثيراً, ما هم: من يقول أن بلاداً كهذه تؤتى بتعب قليل؟

أقرأ عن بلادي في عيون كثيرة و عديدة تنبهر بفرادتها. تمتلأ بالتوق اليها صباحي وأقول لها "صباح الخير."

أقول صباح الخير لأرواح الراحلين وعيونهم معلقة على غدها الناصع.

أقول صباح الخير للباقيين على ذمة حريتها الآتية.

أقول صباح الخير يا وطني, وتطمئنني فيروز بملائكيتها الفارعة: سنرجع يوماً

هل هي نكسة واحدة؟


في 9 حزيران 1967, طلع جمال عبد الناصر على جماهير الأمة العربية التي لطالما بدأ احاديثه و خطاباته بأسمها, ليعلن مسؤوليته الشخصية عن ما بات يُعرف إصطلاحاً بنكسة 1967, وليتنحى عن سدة رئاسة الجمهورية العربية المتحدة.

فور انتهاء الخطاب التاريخي, غصت الشوارع بالناس الذاهلين مرتين: للهزيمة في الحرب العسكرية, وللخطوة التي أتاها هذا الرجل, بعدما طفحت عيونهم دمعاً , كعيونه, وهم يتابعون كلامه عبر الشاشات وموجات الاذاعة. حتى اعادوه زعيمهم و حبيبهم الاسطوري في اكبر واصدق استفتاء شعبي ديموقراطي حقيقي على حبهم له.


منذذاك الحين, ارتكب زعمائنا بنا ألف ألف نكسة, وما عادت تهزنا المصائب, ولا هم عاد فيهم دمٌ يحسون عليه ليشعروا بعظيم خطاياهم فيتخذوا موقف شرف يترجمونه بالتنحي, او حتى القبول بمبدأ التخلي عن كرسي إلتصقوا فيه حتى بات مشكلاً على قياس اقفيتهم


ألف تحية لروح عبد الناصر, الأسمر الأجمل الذي اشعر بفخر انه كان ذات يوم زعيم أمة اؤمن بعروبتها