اسئلة كوابيس واقعية , جداً

لا اشاهد التلفزيون مؤخراً, لا هرباً من بشاعة ما يعرض من صور للاشلاء التي تبقت من جثث مزقتها اكثر الاسلحة تطوراً وذكاءً في عالم اليوم الحر. ولكن لأني فعلاً متخمة من مشاهد الموت العبثي التي عايشتها رؤى العين و مزق الروح التي تتشظى لتصير نجوماً من دموع في ليالي هذا العمر الطويل في الحصارات.

ولكن التطور التكنولوجي يأبى ان يعتقني من ما لا اريده , تصلني صور لاطفال بادمغة متفجرة, لعيون مفقوءة, لاذرع مبتورة وارجل متطايرة عبر الايميل.
وحين احظى بنعمة\نقمة الاتصال ببعض من اعرف في ذلك القطاع الملعون ,اسمع اصواتهم المبحوحة من اثر الفوسفور وسعالهم من اختناقاتهم المتكررة بغازات لا يعرفون لها اسماً ولا وصفاً.

اتجلد على دمعي و احاول ان لا ابكي كي لا افقد معنويات احتاجها و يحتاجونها هم مني ليتقووا بها , ولو للحظة, ازاء كل الجنون المستعر حولهم. انجح قليلاً في كي وعيي بتلك الادعاءات ان ليس ثمة جديد في كل ما يحدث, اقول لنفسي بهمس او بصوت يعلو على كل صوت كل تكسر اخر في دمي "طول عمرك هيك يا اسرائيل". ولكن وعي ضميري يكوي احلامي برؤاهم يطوفون في احلامي فتنصبغ بلون دمهم و تصير حلقات ليلية من مسلسل جهنم الطويل الذي يعيشون فيه.

استعيد كل تفاصيل الموت الذي يزنر ايامي في ليالي الطويلة. اتقلب على وقع وجوههم تهطل من ذاكرتي الى نومي فتؤرقه و تجعلني اهب متعرقة وباكية بدموع لا اشعرها الا وقد خنقتني.

ثمة وجوه ومشاهد استعيدها و تأتيني في مناماتي منذ ايام طفولتي, صور لوجوه اطفال قتلتهم اسرائيل على وعيي ولم يزالوا هناك في الذاكرة القريبة و البعيدة التي اريد بشدة لو ينمحي منها بعض القليل كي استطيع الى التوازن سبيلاً.
تأتي صورة نور العابد ذات الايام الاربعة التي ذبحوها بصاروخ و اسرتها في عدوان عناقيد الغضب يوم 18 نيسان 1996. تسألني عن العالم: كيف كان ليكون في عينيها لو لم تزل حية؟ افيق وامسك رأسي اهزه اريد ان اطرد منه صورتها لأني لا استطيع تحمل مسائلتها الصعبة.وابكي , ابكي حد تمني الاختناق والموت طلباً لراحة لا تؤمنها هذه الحياة.

يا نور, يا هذه الصبية التي كان يمكن لها ان تكون اليوم على اعتاب مراهقة جميلة, العالم اسوأ بدونك. اسوأ ربما لأنه بدونك وبدون رفاقك الذين غادورنا صغاراً لنكبر نحن على دمهم و لا نفيهم حقه و قيمته.

ارى لؤي صبح بعينين جميلتين لم اعرف بهما قبلاً, وانا و العالم لم نكن لنعرفه اسماً و لا قصة و لا خبراً عاجلاً لو لم تفقأ اسرائيل عينيه بقنابلها الفوسفورية. اراه يسألني عن احساسي بالالوان و يشرح لي كيف خطرت له فكرة الاحساس باللون "ايام ما كنت اعمى", فأبكي حتى اكاد افقد نور عيوني لأمنحه لحظة يرى فيها البحر مرة اخرى, او وجه حبيبة لن يراها الا بحواسه حين يكبر, لو وفرته اسرائيل في حربها القادمة.

اسمعهم بلهجاتهم : محمد يمط الاحرف كما الغزازوة الذي مارس لجوءه بينهم, مريم تحكي بلبنانية جنوبية صرفة ثم تضحك ويروح مني وجهها يختبئ في حقول التبغ الممتدة كوشم على خصر قريتها.

اريد ان ابقيهم فيي اكثر, وان ابقى نائمة , ولكني اصحو. جسدي لا يريد ان يصدق حلمي. يدفعني للصحو بارتجافه وتعرقه.

وكل ليلة حين يخذلني جسدي و يؤرقني الضمير , تغتال ايامي الاسئلة الكبيرة: ما الذي افعله هنا؟ ما الذي فعلناه لهم و بهم؟ هل قمنا بواجبنا كي نمنع الموت القادم؟ ما هو واجبنا ازاء الاجيال القادمة كي لا يموت اطفالهم واطفالنا بينهم؟
في احلك لحظاتي, اتصور لو لي اطفالاً تلاحق القذيفة احلامهم و ترديهم في حضني كما امهات بلادي يثكلن اغلى ما لديهن على مرآهم. تميتني الخاطرة. انتقل الى اسئلة وجودية اكثر شخصية و عمقاً: هل اريد ان انجب اطفالاً الى هذا العالم القمئ؟ كيف اربيهم و على ماذا سيكبرون؟ اي قيم و اي ذكريات ستثقلون بها؟

::


في الصباحات التي اقوم فيها الى ايامي متثاقلة لا ادري سبباً لمواصلة عيشها, سأسمع عبارات التفجع ممن سيشرب "كوكا كولا" تطفئ ظمأه تالياً . سيقرقش احدهم كيت كات من نستلة و يحاججني في مشروعية المقاطعة, وسيسوق الى زبائن ستاربكس اسبابهم المنطقية كي يقنعوني بعبثية ما افعله بأن امنع نفسي عن قهوتهم البالغة اللذة. وسيقول قائل ان الفلسطينين "جابوا الديب لبيتهم" حين انقسموا حول قضيتهم.

في تظاهرة او اعتصام او نشاط دعم, سيغيب الجميع اي موقف سياسي, لن يجرؤ احد على اشهار موقف حقيقي من الاشياء, سيدعون على اسرائيل و يدعون بالهداية على من خذلهم من الفلسطينين.
اكز على قلبي وعلى غضبي و اكاد اقول اهل مكة ادرى بشعابها, ولكني اعرف ان الموضوع ليس مكة و لا قريشاً, بل هو وجود كل منا وفينا كبشر ولدنا بالخطأ الجغرافي او القدر التاريخي في هذه البقعة الملعونة من الدنيا.

احياناً اسكت و احياناً انفجر غضباً, يؤاخذني "العقلاء" لأني متأثرة بما يحدث ويشفقون على تأثري, غداً سيلتهون هم بأخبار اخرى, وقد يرضون ضمائرهم كي لا تخزهم بنوبات الذنب من خلال تبرع مادي لن يؤثر على ايامهم بشئ او بصرخة غضب يطلقونها مع هتافات الشجب و الادانة و الاستنكار ثم يعدون الى يومياتهم التي ينسون فيها ذكر فلسطين. اما انا,فستضاف الى ذاكرتي اسماء ملامح اخرى تثقلها بالقصص الجديدة. وحين تبدأ حلقة جديدة من مسلسل الاعتداءات المتواصلة على شعبي بعد قليل, بعد عام او عامين وجيل, سيكون لكوابيسي وجوه اخرى.

هناك ٣ تعليقات:

عابرة سبيل يقول...

اعاني هذه المعاناة و تمر علي يوميا هذه الكوابيس التي بت لا احتمل غوغائيتها
مازالت تلك الصور تلاحقني ايضا,,,وستبقى تلاحقكِ
ربما هي لعنة القدر
كل الاحترام لشخصك و لكوابيسك

غير معرف يقول...

لقدانتهى العدوان لكن الجرح لن ينتهى خلقنا نحن لكي نعيش في هذه المخيمات او هذه المدن لكن الخطر دائما يطاردنا اينما ذهبنا فليس غريب ان نستيقظ في الصباح على نكبة جديدة لان العدو لا يرحم او لا يفرق بين طفل او امرأة او رجل مسن الدموع لا تعبر عن جرحنا ولا التبرعات المهم موقف جاد ومشرف من من يسمون نفسهم عرب او من من يسمي نفسه الله الذي لا يقف مع احد لكن اريد ان اقول لك يا الله كن معنا اذا سامعني مع اني متأكد انو انت لا تسمع احد
غزة انت العزة والنصر قادم
adoola

Entrümpelung wien يقول...

شكرا على الموضوع ))