مجزرة

استعيد التاريخ المعمد بالدم
تطلع من ذاكرتي طفلة فجعتها الاهوال التي انطوت عليها اخبار المجزرة.
اخذت الجريدة بعدهم جميعاً, اختلت بنفسها و صورهم و بدأت نحيباً لا تعرف لو انقطع لحظة.
واليوم, بعد 13 عاماً_اوه لقد مرت حقاً الاعوام تلك كلها!_13 عاماً, ولم تزل كلمة "مجزرة" تخلخل عالمها و تهزه.

واليوم, تكتب كلمة المجزرة و تتهجأها حرفاً حرفاً , فلا تسمع لها تلك الاصوات الرهيبة التي رافقتها عام 1996.
ففي ذلك العام كان للمجزرة شكل طيارات الاباتشي و كان لها مواقع عدة. لم تفهم يوماً كيف للمجزرة ان تكون واحدة و عديدة هكذا, وفي نفس التوقيت!
كان لها صوت انفجار مباغت و رائحة الدم و البارود و اللحم المتفحم, ولها طعم الحزن الغاضب يقبض على الروح و يمسك بأسفل الظهر كعقرب يبث في الجسد سمومه الكثيرة.
::

وهي الان اذ تطبع كلمة "مجزرة" ,تشعر بالرهبة و تترقب طنين الخبر العاجل على الراديو و تفكر بأنهم سيقولون "مجزرة اسرائيلية في قانا "
للحظة اعتقدت ان المراسلين على خطأ, فالمجزرة في النبطية الفوقا كما تبشروا من اخبار الصبح القريبة. ولكن الارقام تتوالى و تؤكد"قانا"

قانا اذن؟ لم يخطئ المراسلون, اسرائيل قالت لاحقاً انها اخطأت.

بالنتيجة لا فرق بين من اخطأ ومن لم: لا شيء سيمحو من الذاكرة وقع المجزرة.وليس ما قد يعيدهم من ذلك الموت الرهيب, والنسيان الاصعب.
::

كان الربيع, وكان نيسان جميلاً كقمر جنوبي يكبر على الجبل.
كبرت المجزرة منذ ذاك النيسان حداً لم تعد تنفع معه محاولات القياس و العد.
لقد ابتلعتنا المجزرة.
انا وهي و كل من سمع و احترق بلفح فحيحها الرهيب.

::
اكبر عن ذلك الوجع. اعيد الطفلة الى سجن الذاكرة.
و أعود الى حاضري, افكر مجدداً بنور العابد, لربما كانت ستبلغ الدرجة الاصعب من تقبل انوثتها هذا العام و تبدأ بالقلق حول منظر جسدها الملفوف جيداً في الأقمشة و الرغبات.
افكر بإسراء, لا شك كبرت و صارت صبية تشهد على رداءة عالمنا الذي يغاضى عن جراحها, واعتبرها "تحصيل حاصل" لضربات اسرائيل المتلاحقة على ذاكرتنا والغد.
اريد ان لا افكر بعد, الاسماء اكثر من ان افكر في حياة كل من كانت لهم.
والربما حرف العلة و الوجع والندم.

فهم رحلوا, وما عدت اقدر حقاً ان استوعب معنى لتكرار التفكير و النبش في قبور و تفاصيل فارغة منهم هم, اصحابها الوحيدين الذين لا نستحقهم نحن الذين بقينا على قيد الحياة.
::
الطفلة لم تكبر كثيراً ,ولا هم : لقد بقيوا عند نفس اللحظة الرهيبة تلك.

لوحدها كبرت المجزرة.
كبرت كثيراً المجزرة و صار لها في قانا اخت اصغر كتوأم. وتوزعت قرى اخرى باقي ملامحها ولم يزل ارثها مشرعاً برسم الاحقاد الاتية.
كبرت حتى صارت علماً وعنواناً و فصلاً من فصول هذا العمر الرهيب.

صار عمر المجزرة 13 سنة.

كل عام و انتم اكثر صمتاُ في الذاكرة يا ضحاياها: من رحل منكم و من بقوا احياء



هناك ٣ تعليقات:

غير معرف يقول...

إعتذار من إنسان مجهول جداً

أعتذر عمّا فعلت بحقك في زمنٍ مضى .. قد يكون اعتذاراً خجولاً ولكنه يحمل أسى وخجل عميق .. خجل من الذات ومنكِ .



تحياتي
إنسان مجهول جداً .

Wohnungsräumung يقول...

Thank you for your wonderful topics :)

Entrümpelung wien يقول...

شكرا على الموضوع ))