كما في الافلام: وقفت أمام المرآة , أمسكت بالمقص , "خرطت" خصلات شعرها الطويل وتركتها تنهمر مع دموعها على ارض الغرفة بينما كانوا ينادونها لتبدأ وليمة الغداء على شرف حضورها.
مسحت دموعها و تنفست بعمق. كانت تعرف ان ما ستقوله سيزلزل كيان الجميع و لكن لا طريقة سهلة لإشهار مثل هذه الأشياء بوجه اغلى و اقرب الناس :الأهل.
خرجت بهدوء, اول من رأتها ابنة أختها كثيرة الحركة و الكلام و صرخت" وينون صعراتك؟"
إلتفت الجميع اليها و هي تخطو بتمهل و خفة عروس الى غرفة الطعام حيث أصيب الجميع بوجوم الى ان صرخت امها" ولي شو عملتي بحالك؟"
وقبل ان يضيف اي فرد في الاسرة جديداً, مسحت بنظرتها وجوه الجميع ببالغ الحب, فشعروا ان ثمة ما يوجب عليهم الصمت و الاستماع فورا.
من فمها خرج صوت لا يشبه صوتها. شعرت كأن ثمة شخص آخر يتكلم من داخلها و يستعير حركات شفتيها فقط ليضيف التعبير الى الكلمات المحايدة التي قيلت.
هي الان لا تذكر حرفية ما سمعته يخرج من حنجرتها. اخبرتهم بهدوء انها تحبهم جداً, ولذلك فهي لا تريد ان تسبب لهم ألماً لا يُطاق برؤيتها تفقد نضارتها و حيويتها و شعرها شيئاً فشيئ . تذكر ان عيناها بدتا لها و كأنهما اكتسبتا قدرة سوبرمان على النظر من خلال الاشياء, و انها شعرت انها كصوفية انكشف عنها الحجاب و صارت ترى ما لا يُرى. ولكن حتى سوبرمان لم يكن يستطيع ان يرى المشاعر و الافكار, ولكنها هي, في تلك اللحظات البالغة الصفو, رأت.
و الصوت الغريب الذي اصدرته قال لهم ان الاشياء صارت في مرحلة أسرع من ان يلحق بها الطب مهما حاول. فحين اكتشف اطباء امريكا حيث انهت للتو دراستها و عادت منذ يومين " هداك المرض" (وهذا ما يقوله الناس في مدينتها عن السرطان لأنهم يتطيرون حتى من اسمه) كان وقت تدخلهم قد فات و انتهى.
_ليس لديهم ما يقدمونه لي سوى علاج كيميائي بغيض و مزعج سيحاولون من خلاله السيطرة على بعض مناطق انتشار المرض.انا لا اريد ان اتوجع و اود لو امضي بأقل الآلام الممكنة و اكثر الذكريات فرحاً و اشراقاً لكم و لي عن هذه الحياة العبثية و السخيفة حد المهزلة, ولكني اظن انه سيكون قراراً انانياً جداً اتخذه لنفسي.والان انا مستعدة_حتى كشكل بعد كل ما خسرته من وزن و شعر ايضاً_ للدخول الى اي مستشفى تريدون فيما لو طلبتم مني ذلك, لنجرب معاً اخر الحلول المحتملة لمد عمري شهور او ايام, وربما سنوات, من يدري؟ ولكن شيئاً لن يتغير في حقيقة ان الموت بات تحت جلدي, وان الاطباء لو حاصروه اليوم في مكان, سيطلع كعفريت علبة يفاجئنا ويفاجئهم من مكان اخر غداً ربما.
للآن تستطيع ان تسمع اضجيج النحيب و اختلاط الاصوات و البكاء وعدم التصديق.فوضاهم تلك وفرت عليها عناء تحريك شفتيها ليكمل الصوت نشرته الاخبارية التي قوامها خبر واحد هبط على رؤوس اهلها بقهر يفوق كل ما سمعوه من نشرات اخبار طويلة و مريرة في حياتهم. اختها الوحيدة وصلتها اولاً و أمسكتها بجنون و صارت تهزها بعنف لا تعرف من اين اتاها و تصرخ" وين؟ ليش؟ شو؟"
هي لم تجب بكلمة, فقدت قدرتها على النطق و التفكير. شعرت ان موتاً جزئياً حضر الان على شكل شلل بلع قدرتها على احتمال اثر ما قالته عليهم.
والدها الذي كان يظن انها عائدة لتكمل فرحتهم وفخرهم بها و انهياره بكاءً. أمها التي صارت تجعر كأنما وقع الفقد قد بدأ يقرع جدران قلبها منذ اللحظة. وباقي العائلة, فما عرفوا كذلك كيف يتصرفون: اعمام, عمات, اخوال و خالات. كانت وليمة لقائهم جميعاً و احتفائهم بها, فكيف صارت بروفة على العزاء الذي سيفتحونه عما قليل في قلوبهم قبل بيوتهم لها؟
::
في الايام التي تلت خطابها الذي سد نفس الجميع عن الاطايب التي تكومت على طاولتهم, أعاد مرحها بالذات وحبها لهم شهية عيش اللحظات الاخيرة معها الى اقصى حد. هي التي ساندتهم لتقبل غيابها الوشيك. فحين استعادت صوتها, جلست معهم تشرح لهم ببساطة شديدة وجهة نظرها " في النهاية كلنا سنموت, أليس كذلك؟ على الاقل لدي مهلة اعرف انها الاخيرة المتاحة لي لأفعل كل ما مر عمري و لم افعله. ارجوكم لا تفوتوها عليّ بين دموع و انهيارات و بكاء, سأموت كما كل البشر, و ستبكون انذاك بلا شك. فلنؤجل البكاء لوقتها, انا اعدكم اني سابكي فيما لو مسموح البكاء في المجهول الذي سأذهب اليه. أما الان, فخذوا مني و أعطوني اجمل الذكريات لتبتسموا حين أمر ببالكم بعد سنوات و ابادلكم انا من حيث سأكون الابتسام و الامتنان"
::
الآن, وهي معلقة بين الملاءات البيضاء كأنها تركب المرجوحة التي ستنقلها عما قريب الى عالم اخر لا تعرف عنه شيئاً, تبتسم لهم جميعاً. لقد كانوا أجمل الناس حقاً. احبوها للحظة الاخيرة بلا شروط سوى ان تفرح لاقصى حد بما بقي لها من ايام, مهما قصرت او طالت. لقد تفهموا عدم رغبتها في الموت ضعيفة و مجللة بالاحزان التي انفرط عقد اخفاءها مرات كثيرة, خاصة حين صار الفاليوم كأخبار الجزيرة "على مدار الساعة". لكنها كانت تضحك لهم, بكل هدوء وجمال ودلال ممكن لصبية تعرف ان كلمة النهاية جاهزة و ان انزال الستار هو مسألة ترتيب قدري او إلهي لا تستجوبه ولا تفهمه, ولكنها بشكل ما ممتنة له انه اتاح لها فرصة معرفة ما لها فيهم وما لهم فيها "أهلاً و اصدقاءً" من الحب و الاحترام.
الان, ترسل تنهيداتها الاخيرة وتشعر بأن حضورهم البهي في روحها يملئها تماماً. لقد عبأت قلبها بكثير من الحب الذي تأخر بعضه ليُعلن بكل هذا الجلال. و هي كذلك بصمت ايامهم بذكريات لن تنمحي بسهولة.
وعما قليل, حين تغمض عيونها الى الابد, سيكون لها ما ارادت. بكاء وحزن عميق سينقضي عما قريب و مع الوقت.ومع الوقت ايضاً ستنبت الابتسامات التي زرعوها على مدى العمر معاً كلما مرت ببالهم و حكوا عنها لمن سيأتي و لن يعرفها من العائلة و اولاد الاصدقاء الذين تترك منهم الحوامل والذين يخططون للانجاب, كما صورها على حيطان البيوت و ذاكرة الاماكن.
قبل ان تسمح لنفسها بأن تذهب, شكرت "هداك المرض" حقاً. فلولاه, لربما ما حظيت بفرصة ان تعيش اخر ايامها كما اشتهت.
لا حصر لما مر ببالها من اشياء في تلك اللحظة الاخيرة, ولكنها بلا شك ابتسمت, فقد وضبت بعناية ما ستحمل معها الذاكرة التي تشتهي حقاً, ثم ستموت.