يا صور على بالي



الغريب: كلما هربنا من الأمكنة تستيقظ هي فينا بكل تفاصيلها و كأننا هززناها في غفوتها او استثرناها بشيء ما. كل شيء جميل يعيدنا الى أصل منكسر لا نستطيع التخلص منه


ما الذي يجعلنا نحب مدينة و نعشقها مثلما نعشق امرأة تفتننا او رجلنا المشتهى؟

ما الذي يجعلنا نشتهيها عندما ينفر منها الجميع؟

ما الذي يوقظ اوجاعنا كلما تعلق الامر بفتح نوافذ جديدة داخل الذاكرة؟

ما الذي يقودنا نحوها هي بالذات ونرفض المواعيد المسبقة مع مدن اخرى يتمنى الكثيرون أن يسيروا في شوارعها ويشربوا كأساً مخطوفة في مقاهيها السرية الاهواء؟


المدن هكذا: إما ان تحب دفعة واحدة او ترفض جملة و تفصيلاً. المدينة و الشغف يتشابهان

تغويك, وعندما تصير فيها تتخلى عنك او بكل بساطة تضعك في خانة المضمونين. وقد يأخذك سحرها فتنسيك حذرك اليومي, فتضيع و لا شيء فيها يعزيك في قساوة الفقدان.


وقد يكون لقاؤك اليومي المقدر بمدينة يشبه أجمل موعد عفوي مع من سيسبي عقلك و روحك, لكن عليك ان تظل مستعداً لدفع ثمن الغواية في أية لحظة
ضريبة غوايتها هي الحنين يقص وحدتك بخناجر الذكراة,ويفح في الشرايين دمعاً بدل الدم, فتصير انفاسك برائحة الشواطئ الخاوية من الناس و المتموجة على رمالها اشواقهم و احزانهم و احلامهم المنكسرة
المدينة عشق لا تدري عمق جذوره الا حين تتقطع بك السبل الى صوت نبضها اليومي, وتغيب وراء المشاهد اليومية المكرورة صورة وجهها تصنع يومك بضحكة و هيل قهوة و"صباح الخير" تملؤك حباً مستحيل

المدينة ليست حجارة, هي إلتباس اللذة المسروقة بشيء غامض من الصعب فك سره. الشيء الوحيد المؤكد في هذه المعادلة هو ان المدينة و العشق لا يقبلان مطلقاً بأنصاف الحلول التي نحافظ بها عادة على نفاقاتنا الداخلية




عن دارة تتسع للعالم

تهاتفني رشا من عمان هذه المرة
اسألها اين ذهبت في المدينة التي صرت احبها اكثر قليلاً بفعل التكرار و المميز من احداث حياتي التي كانت شاهدة عليها بأدراجها وشوارعها و جبالها المعلقة على وهم الاستكانات المستحيلة
"عليكِ بدارة الفنون و محترف الرمال و مقهى جفرا"
جفرا رحته , بس ع الاكيد بدي اروح ع باقي المطارح_
وتروح تحلي المطارح الباقية , فتزداد عمان غلاوة أن مرت بها هذه المرة صبية كشهب حالم
::
ايام قضيناها بين ضحك و حكي و انفعالات جميلة,و نتهاتف مجدداً: هذه المرة الى البلاد تدور صديقتي
كم احسدها: البلاد و رشا
الحلوة تعود الى شتوية عادت على الوعد,وخلفتنا ورائها: نحن مرضى الحنين الذي لا يموت لو متنا
::
رشا في حيفا
المطر في حيفا
الذكريات حيفا
دار سيدي في حيفا
.والامل ينبت و لا يذبل ليزرع الربيع في قلب حيفا
هي الحياة في حيفا
ودارة الفنون التي لها فروع في قلوب متناثرة على مدى جغرافيا العالم بطوله و عرضه, صار لها الآن أخيراً قلب ينبض بذاكرة تخصه في حيفا
::
حلوة يا رشا
حلوة دارة الفنون
حلوة المدن الغريبة فجأة
وحلوة جداً حيفا
حلوة الاشياء والدنيا ان فيها زغرودة فرح طويلة تتقطع احياناً بنشيج الوفاء لمن لا يملكون البلل بمطر حيفا, فقط يحس بهم قلب جميل بعيون مفتوحة على الاحساس يرسل لهم بعض برد, يدفئ ارواحهم من حيفا
ويبللهم دمع اشتياق لا يُفسر لما قد لن يكون يوماً الا ذاكرة و صور عن بعد
حلوة الدنيا يا رشا
حلوة الصداقات
حلوة اللفتات
حلوة احاديث منتصف الليل و منتصف الحب و منتصفات القلب و الفراقات العجيبة
حلوة ذكريات تتكدس على مرمى حجر و شجر في مدن كعمان آن لها ان تتحرر من وطأة الاستعاضة والبحث فيها عن بديل لا يضيع كحيفا
::
حين ازور عمان في المرة القادمة, سوف ازور معلماً جديداً لا يعرفه كثر, قد لا يعرفه غيرنا احد: سأزور
حيفا التي مرت فيها بك يا حلوة, فصارت عمان مجدداً احلى, ودارة الفنون اتسعت لتصبح بطول و عرض عالم يتسع لقلوبنا النابضة بفلسطين وعداً سيصل, حتماً سيصل

عن البعد السادس

حين يُحكى عن الحاسة السادسة, يقولون انها الحدس, انها التوقع الاقرب الى اليقين فيما لا دلائل ولا قرائن و لا اشارات تدل عليه, سوى هذا الاحساس الغامض بالاشياء


ولما اسمع عن الابعاد التي يحاول العلم اكتشافها و تحديدها وترقيمها بين اول و ثانٍ وثالث و عاشر, يسرني ان ألهو بالمزج بين الفكرتين: بعد سادس


بعد ساذج ربما, بعد لطالما اهتديت به الى هزائمي الجميلة وما يحق لي ان اعتبره امام نفسي كل ما افخر به و به اعتز


::

بعدي السادس هذه الايام يحس و ينبض بإشتهاء التموضع والتواجد والتشكل في حيز صغير,صغير و بسيط و حالم جميل ربما


صغير بما يكفي ليتسع لنون جماعة تنقسم فقط على اثنين و توحدهما في فرق المسافة المعدوم


صغير بما يكفي كي يضيق على الاختلافات التي بين عالمين و طفولتين لن تلتقيا الى على احاديث الذاكرة المنخورة بالوجائع و الضحك البخيل


صغير بما يكفي كي يحتوي توحش كل الحواس في انتفاضتها على كل عقل و منطق تريد نفحة رائحة و رقة ملمس وحفيف الصوت بطرف اللسان حين يتعثر الحكي بإنفعال مباغت

صغير بما يكفي لمعالجة الحكة المزمنة في الشفاه تريد قبلة تفتح شهية الروح على الورد و الألوان و اجمل التوقعات من الحياة, وربما فقط من الاحلام

صغير بما يكفي كي ادرك, بالبعد السادس, والحاسة العاشرة و كل الملموس و المحسوس من الاشياء انه معرض للتلاشي اكثر مما للاتساع لأبعد من اللحظة, وقليلاً مما بعد اللحظة

::


هو بعدي السادس, علمني كيف اتوجع واتقوى بما يلزم كي اكون, علمني كيف افرح بالابسط من الاشياء لأعتبرها معجزات يومية تستحق الاحتفاء بها بإحتفاليات عالية من المنثور من الابتسامات و الموزع من فرح الكلام


علمني ان الهزائم الجميلة هي ما يصنع الذاكرة, كل مرة انضر و اجدد وانصع, وان كنت متخمة بها و بجمالية كل ما مر فيها


وهذه المرة, بعدي السادس_اثق به لا اثق به, ليست هذه المسألة_ينذرني بأني لن اتصاغر الى مقام ذاكرة, وان ذاكرتي انا تحديداً تستعد لاستقبال الاغلى و الاعلى من بين اجمل هزائمي

وحدة


رجعت الشتوية


لا فيروز هنا بصوتها, ولا رائحة قهوة أمي, ولا قبر بابا بالإمكان لأزوره و ازرع فوقه دمعتين يسيقهما المطر فيكبر حزني


رجعت الشتوية: اشعر بوحدة تذبحني, فلا احد "يفتكر" فيّ. ابرد حد المرض جراء شعوري بالتضاؤل أمام زخ الخير الدفاق على غفلة من الطبيعة و توقعات الناس, و تماماً على الموعد مع روحي كي تستعيد بعض ما جففته منها المسافات


كلما شتت اول مطرة, كنت "احمل حالي" و اماشي الطبيعة في معانقتها لعناصرها فرحاً بالخير الجديد


امشي في شوارع مدينتي, ارقب بحرها يغسل موجاته برقة الفصل الآتي بوعود اخرى, اغني و اصفر وخطوي يتراقص فوق البرك الصغيرة التي بدأت تتجمع في الشوارع وتوحلها بينما اتبلل واضحك بوجه السماء كطفلة تلهو بالايام و الفصول و كرج السنوات على جلدها , كما قطرات المطر



كذا فعلت اليوم, فاجأتني "الشتوة" و انا في طريقي لشراء خبز ساخن و طازج كتوقعاتي المعتادة من فصلي الحبيب, التي كانت معتادة بالاحرى. تنورة و بلوزة باكمام قصيرة و شعر مفرود لتمرده الاعتيادي, وهذا المطر! ياه ياه على بلل هذا المطر



رائحة الخبز تعوض قليلاً عن رائحة التراب التي تملأ قلبي و روحي عادة, احضن الارغفة الساخنة ألوذ بها من برد الايام التي مضت والتي ستأتي و روحي على اغترابها, وامشي و دموعي تمشي على خدي كما المطر فوق اسمراري القاحل من المعنى


ليس من سأعود الى البيت ليقول لي"يا مجنونة", ليس من سيتصل بي لنصرخ على الهاتف: شفتي الشتا؟وليس من طقوس اعرفها لاستقبل بها الفصل العائد, سيكون علي الان ان اخترع طقوسي الخاصة اذاً؟ هل بي رغبة حقيقة بهذا الفعل الصعب فعلاً؟


هذه هي الوحدة التي يحكون عنها إذاً؟


الوحدة هي هذا البرد الذي ينخر العظام اذ ليس من تشاركه حدث عادي و متكرر كالمطر, هي ان لا تجد في ذاكرة هاتفك من قد يود فعلاً ان تتصل به و تشاركه هذه اللحظة.او قد لا تريد انت اما لاختلاف التواقيت او لتوقعك الخائف ان موضوع حديثك لن يكون موضع اهتمام



الوحدة هي ان تتمنى ان تحقق حلماً حلمته قبل كم ليلة حين اخبرك اخوك الاصغر عن كسوة مدينتك التي تركتها لانتظارات جديدة بالمطر. حلم اسعدك حينها, وكان ليسعدك لو نفذته اليوم. حلم جميل انها امطرت عليك ببعض الفرح في اغترابك, وانك و تحت المطر, حملت هاتفك و أسمعتَ صوت المطر وبهجتك الطفولية لمن ترتاح له قلبك فعلاً


لن يجيب, ولا انت ستتصل, ستخشى ان ترد حيادية و برودة الصوت, فيزداد بردك جليداً تؤجل المرض به الان, لديك الكثير مما يكاد يقتلك حالياً.تفضل رسالة متأخرة وخبر طفولي اخر, وليس ثمة فرق في الرد, على من تضحكين يا نفس؟ يبدو ان الجليد قد وصل


ستمعن وحدةً,يمعن صمتاً, والمسافة التي تغزل من برد الصمت وضبابية التوقعات لا يملأ هسيس الألم فيها الادعاء بالفرح تحت كل امطار العالم مجتمعة في بطن غيمة واحدة



رجعت الشتوية: لا احد يفتكر فيّ, ولا انا اريد ان افتكر في احد بعد الان


رجعت الشتوية: ارجو من السيدة فيروز ان تكف عن محاولات ادخال مناسبات حزني المقنع بطفولة لا تريد ان تكبر الى روزنامة اغانيها


رجعت الشتوية: امشي وحدي الى وحدة صارت ابرد زيادة , بفعل الطقس هذه المرة


رجعت الشتوية: افهم الان تماماً ما معنى وحيداً كقطرة مطر