كتير حكي: عن اولى المفاجآت

القصف على كل البلد

مثل هذا اليوم صباحاً ذهبت باكراً لأشتري خبزاً للبيت, لم يكن ثمة رغيف في افران صور, اخذت السيارة الى الفرن الوحيد العامل على المدخل الشمالي لمدينتي حيث ستكون محاولة إنزال للكوماندوس الصهيوني لاحقاً
حشريتي لرؤية الشوارع المسقوفة بهدير الطائرات جعلتني استعجل جلب الخبز لأقود بحذر و تمهل حول مدينتي لأتمكن من تصوير الهدوء المخيف الذي يشل حركة الناس كلهم: اهل صور و كل القرى المحيطة فيها

لا احد, سيارات عددتها اقل من عدد اصابع يدي وقتها مرت في تلك الجولة في الشوارع التي تلف المدينة و توصل قرى الجنوب بها وببعضها
صعقني كل ذلك الصمت, فقط "ام كامل" تطنطن لتملأ المدى. وأم كامل هي طائرة الإم كي التي يدعوها الجنوبيين بهذه الكنية ويسمونها ايضاً الطنانة و الزنانة نظراً لكمية الازعاج المركز التي تبثها في الاعصاب مما قد يدفع اي امرء الى شفيرالجنون,ولكني لاحقاً صرت اشعر بالصمت حقاً حين لا يكون صوتها خلفية موسيقية لايامي

اوقف السيارة قبالة شاطئ صور الجنوبي, و اشرع كميرتي لتلتقط اللحظة المباغتة في وضوح صورتها: بارجة بهيئة كاملة الوحشية تنتصب في مهب الازرق الذي اعشق

صوت يخرق الهدوء الفظيع, و يسأل: انتي صحافية؟
ارى شاباً مختفية ملامحه وراء الاسود الذي يغطيه, اقول له اني لست كذلك, فيقول لي : وليش عم بتصوري؟

للذكرى_
طيب تسهلي يا اخت, الوضع مش منيح وانتبهي ع حالك" ويختفي"

مع اقتراب الام كامل وارتفاع هديرها, احاول ان احافظ على اعصابي ثابتة وانا اعيد تشغيل السيارة, واول انطلاقتي تفجر غارة هادرة اصواتاً كثيرة في رأسي
استعجل الوصول الى البيت, نسيت تلفوني , وماما حتماً ستكون قد اكلت رعبة
اجدها على البلكون , تتلقفني بصراخها من الطابق الخامس :وينك؟
اطالعها بربطات الخبز التي جلبتها لبيتنا و اقاربنا و الفائض منها التي قد نعوزها في ايام
لاحقة نحن او الجيران. اقول لها بدلال تحتاجه لكي لا تنفجر غضباً_أظنه مستحقاً قليلاً_شو بعمل الفرن عاجق
تهدأ قليلاً وتخبرني انها جنت حين حاولت الاتصال بي ورن هاتفي في البيت
اخوتي كانوا بعد نياماً قبل الغارة و استيقظوا مرعوبين بدورهم, وشلهم انتظاري لتلك الدقائق التي لم يعرفوا عني فيها شيئاً
اخي يحضنني بقوة و يقول لي اني كلبة و انه كان علي ان انتظر ان يستيقظوا ليحضر احدهم الخبز, يمازحنا صغيرنا, ويقول: مش عارفها يعني؟ اختك بطلة, ونضحك

بلى:كنت بطلة ذلك الصباح, بطلة الرغيف و الحظ الذي انقذني من الموت احتراقاً مع محطة البنزين التي كانت اخر نقطة وصلت اليها في جولتي حول شوارع المدينة. شوارع المدينة التي ما كانت لكل الناس,ولا حتى لحدا! بل كانت ذلك الصباح لكل الخوف والقلق مما قد تمطره علينا بغتة السماء

::

بعد قليل, سأحاول ان احفظ صور ذلك الصباح على الكمبيوتر دون ان يراها احد من اهلي كي لا اخيفهم بالمزيد من ما اعتبره جرأة و يسمونه جنوناً

سأنجح , و سأخفي الملف حتى ما بعد الحرب, حين سيكون جنوني قد وصل ابعد مدى, وسيرونه و لن يوفرني ذلك من غضب متأخر مما يمكنني ان اثيره فيهم من قلق عليّّّّّّّّّّّّ بما يعتبرونه سوء تقديري

::

في الحرب كانت لي نظرية بسيطة"عليّ بالنوم متى أمكنني, حيث لا اعرف اذا ما سيكون من مجال لنوم في الغد", وكنت اطبقها كلما حظيت بلحظة مؤاتية لأضع رأسي على اي مخدة
ولكن ذكريات الصحو من نوم الحرب المتاح سيئة حقاً, يومها افقت على خبر مجزرة مروحين

::

المشاهد المكرورة لمجزرة المنصورية التي اقترفتها الطائرات الصهيونية في عملية عناقيد الغضب عام 1996, تكررت هذه المرة بصورة اكثر فداحة.

مجزرة اهل مروحين ايضاً فرمت الاجساد البضة ل26 فرداً من عائلتي عبدالله و خالد على الطريق الى الناقورة , الطريق التي احبها لأنها تقودني الى فلسطين

::

من اين يأتيني الدمع بعد؟
يا الهي: عام مضى, ولم يزل الجرح طازجاً, وينزفني دمعاً مريراً كما لو ان الغبار الذي لف الاجساد المعلقة على وجه النهار و اعين الكميرات ومن وراءها العالم لا زال ينعف في وجهي و يصبغ ملامحي بالرمادي



طيب: لماذا اكتب كل هذا الآن؟
احياءً لذكرى الحرب؟ ام توثيق بمفعول رجعي للتجربة التي طحنتني حد الوصول الى الحد الفاصل للموت حقاً و ورؤيته بعينين تدمعان من الغبار و مع ذلك تحدقان بأخر تفاصيل الحياة بقلب مفتوح على التحدي؟
لا اعرف حقاً, ولكن الاكيد اني احتاج ان افرغ روحي مما فيها من تراكمات بقيت فيّ منذ تلك الايام العصيبة

ايام الموت و النصر الذي صنعه الدم و التحدي و الصمود, ولست ارى شخصياً اين للالهة يد فيه

::

اين كنا؟
اه: في تلك الجمعة الحزينة نهاراً و الصاعقة بالافراح المسعورة التي اندلعت من كل قلب و بيت و حنجرة في ذلك الليل

يومها, طلع بدر المرحلة علينا و حكى: مهموم وفي عيونه قلق يوازيه فقط التصميم على ان لا يهون و لا تهون في فيء حكمته البلاد و كرامة ناسها

حكى السيد حسن: بوضوح و بساطة و بأكثر الطرق مباشرة:
في عرض البحر, البارجة الحربية التي اعتدت على بيوتنا وقصفت اهلنا ومدنينا , انظروا اليها الان: ستغرق ومعها عشرات الجنود الصهاينة

وانقطعت الكهرباء في صور
::

دقيقة او اثنتين مرتا كدهر علينا في الظلمة, لم نعرف اذا ما كانت تلك مزحة ثقيلة من قدر عابث, او انها فعلاً اولى المفاجآت التي وعد بها السيد حسن؟

حين يعود الضوء الى ليلنا, ستهل معه التكبيرات وصرخات الفرح المجنون, فقد صدق الامين
كنا لا نصدق ان ذلك يحصل حقاً: نحن نعيش التاريخ! هذا تاريخ اجمل من ان يغالط المرء فيه نفسه: نحن نعيش تاريخ النصر على الصهاينة, وذلك فقط بداية لتحقيق وعود السيد بالمفاجآت
"يا سيد النصر تمسك بالفرح" و قد تمسك بفرح كرامتنا سيد المقاومة, وتمسكنا به و بسلامته و فرح قلبه بأهداب عيوننا
شاشات التلفزيون صارت تعرض مشاهداً لا نميزها حقاً من هول المفاجآة علينا نحن ايضاً: فكيف بالصهاينة المغرورين؟ والشوارع طفحت بالناس: العاب نارية ظنناها قصفاً, ثم اخذتنا الفرحة حتى ما عاد ليهمنا لو قُصفنا حقاً في لحظة مجد كهذه
وحلوى يوزعها الناس على بعضهم, والرز يملأ الفضاء والصراخ يعلو كل الحكي,والضحكات: ياااااااااااااااه ما اجملها الضحكات المضاءة بدمع العيون و القلوب المستعدة حقاً للموت في لحظة كهذه
جننتنا الفرحة, جننتنا!


الجنون ليس ان اذهب الى حدود الخطر بسيارة او على قدمي (وهذه فعلتها و افعلها كثيراً): الجنون هو ان تعلن فرحك على اعين عدوك الذي يتربص بأرضك و بحرك و سماك التي تصير صغيرة ضئيلة امام هائل الانفعالات التي تقصف بها غطرسته
الجنون ان لا تشعر بأنك تملك العالم بين رموش عيونك "حرفياً" لأنهم يذرفون دموعاً مثلك ايضاً: مع فارق جوهري و تفصيلي غير بسيط بالمرة, انهم يبكون الهزيمة الاتية حقاً

وكيف لا تجن ؟ والمقاومة من قلبك ومن خلفك و امامك, وما لهذا العدو سوى ان ينهزم

ذلك الليل كان حلقة من سلسلة طويلة من الفرح الذي عشناه برغم الدم و الدمع و الدمار و الغبار

ذلك الليل لا زال ممتداً لليوم فينا, وكيف لليل ان يمتد سنة؟

يمتد صدقوني: حين يكون المرء من امة النصر والارادة, فإن التواقيت تختلف والمواعيد نختلف, وكل الاشياء تختلف

::

وبما اني سكرى الآن تماماً بذكرى اللحظة التي تعيد شاشات التلفزيون بثها وانا اكتب هذه الكلمات, فسأقوم لأحدق في عام مضى و لأستعيد الفرح الذي كما الجرح, يبقى طازجاً, ويبقيني على المعنى الحقيقي للانسانية





ليست هناك تعليقات: