ليلة أخرى لذاكرة لا تسرح, ولا تسرحه

حين تطبق شفتا الليل على المدينة و الحكي

ينفث في صمتهما والعتم سيجارة قلقة

ويقول:صباحك يا بلد

:

يقيس بعينيه مدى ذاكرته

يزمهما حتى تريا كل شيء ويحاول التذكر: هل كانت السروة على مفرق الفرن أقصر؟
متى بدأت بضاعة دكان ابو هشام تقضم الرصيف الى هذا الحد؟
وهل لا زالت عجقة المدراس تطوق الشوارع برفوف المراييل و الغزل يتطاير و بعض ضحك و شجار؟

يسدل رموشه على النظر المتعب
يذهب الى المدينة كما يعرفها في حضرة الضوء

ينتشي بالمشاهد, ويريد مزيداً منها: مدينته و تفاصيلها

:

يوغل في الذاكرة أكثر: أمه تفح محبةً , وتنتظر

هذه المراءة قضت عمرها إنتظاراً بإنتظار
انتظرتهم يكبرون, ولما كبروا, تنتظرهم يعودون اليها أطفالاً: تغسل ثيابهم و تضمخها بطيب الدعاء
تقبل رؤوسهم قبل النوم وبعد صلاة فجرها المديد
وتوزع أطباق الجبنة و التين المعقود و كاسات الزعتر و الزيت على الحصيرة المفترشة ارض الدار و قاع الذاكرة
تناديهم"يما تعالو نفطر", تريد ان تلمهم مرةً بعد لقمةٌ و خبز طابون و شاي بنعنع, كما قلبها دائماً يلمهم


للحظة ينتبه انه لم يفكر يوماً بأمه الا "أمه", ولا مرة سأل نفسه كيف كانت قبل ان تصير أماً
فهي لم تولد بهذه الصفة حتماً
فكر انه يريد , لحشرية نبتت فجأة كما الزغب في صدره ذات تحولات مراهقة,ان يعرف أكثر ماذا إنتظرت قبلهم: هو و اخوته, شقى العمر و شقاوته الاجمل

تلسع السيجارة اطراف اصابعه فينتفض
يرميها و يتنهد: سأسألها حين أراها المرة المقبلة بماذا كانت تحلم قبلنا

:

يضع ابريق شاي على نار تتقد _مثله_ بالاشتعالات
على الأغلب سيسرح كعادته, وسينساه وسيصير لونه خلطة عجيبة من اشتباك النار و المعدن
لا يشغله عن السرحان سوى مزيداً من السرحان
بماذا سيفكر الآن؟
قبل ان تغلي ماء الشاي, كروحه تغلي بكل مفردات الرفض
سيسرح بالرفاق؟ من بقي منهم قيد الحرية و الباقيين الذين صاروا على قيد قبر او سلاسل؟
بممارسة الرفض؟
بالتنظير لكفاح الطبقة العاملة؟
بالتشديد على المطالبة بإطلاق الاسرى؟
او سيسرح بطرف شالها حين مرت قرب شباكه المغلق على الصمت قبل اسابيع؟
لم يعد يريد لها أن تأخذ اي مكان في ذاكرته و لا لحظاته و لا غده
يريد ان يقتلعها من صدره وروحه
ولكنه يدري تماماً: كلما تجذر فينا من نعشق أكثر, كلما تطرفنا في أحد خيارين: أما التمسك به حد الحياة , او ابتعدنا عنه حد الموت
وهو يعشقها هي
يمغصه امتثالها الغبي لما يقوله فلان و علتان, ويعشق امتثاله لغواية رموشها حين تصفقان كجناحي فراشة حين تخجل على مرمى كلمة, ولمسة مسروقة من كل "المفروض"
اشياء كثيرة "مفروضة", أكثرها إلحاحاً الآن أن لا يفقد حواسه الحاضرة و يغرق في سرحانه معها
فكل هروبه اليها_ولو للحظة تذكر_ خطوات الى الوراء, ومن يحمل صخرة خياره, لا خيار له سوى المضي قدماً
يحضر الفناجين, سيأتي الرفيقان عما قليل
سيجد لبعض وقت مكرور, من ينتزعه من براثن السرحان, والذوبان في حالة اللاذاكرة و اللا نسيان
:
يطفئ النار, تحضره ابنة أخته اللذيذة كقطعة شوكولاته مرة: ستشتهيها حد البكاء, ومع أول قمضة او اثنتين ستشعر أنك مملوء بطعمها اللاذع
هكذا الاطفال: شوكولاته مرة, يكفي مرور ربع الساعة الاولى معهم كل مرة حتى تعافهم, ومن ثم تعاود اشتياقهم من جديد
ابنة أخته الصغيرة, يقول لها "اطفي الضو" فتنفخ على اللمبة, ويغرق البيت بالضحك و تغرق هي في حضنه المبثوثة فيه رائحة الاستعجال دائماً
يفكر أنه لا يعرف بقية اولاد اخوته كما يعرفها هذه الشوكولاته.
يقرر: لو خرجت ذات شمس من شرنقتي هذه, سألعب معهم في الحاكورة, وسأعلمهم رشق الاحجار على وجه الماء و سأسألهم كيف يطفئون الضوء
:
يرى إلتماعة, وأخرى: هذه اشارتهما, وصل الرفيقان قبل سرحانه الليلة
يفتح لهم منفذاً لغرفته _الشرنقة, ويحضر الشاي مع سيجارة تحترق على طرف شفتيه المتشققتان عضاً متوتراً ومتواتراً
يشم يدي أمه مع تصاعد البخار المشحون دفئاً, تعصف به صورته معها و حبيبته المنفية من قلبه بإصرار يشربون الضحك و الفرح بطعم النعنع
"صباح الخير"
هلا رفاق_
يستلم منهما اغراض ارسلتها امه, وبين الاكياس, علبة شوكولاته وخبز طابون
ودمعة تكابر ان لا تلمع فيفتضح مكانه الذي في اللامكان

ليست هناك تعليقات: