كتير حكي: ما قد يقصف العمر, او يطيله

عما قليل, سيبدأ الجميع بالكشف عن عدم نومهم الذي يزنر عيونهم بهالات سوداء, الحديث متوتر بفعل الاخبار الصباحية عن القصف الشديد ليلاً الذي طال اغلب مناطق لبنان: شو منعمل؟ منضل او منفل؟ لوين بدنا نفل؟ اللي الو عمر ما بتقتلو شدة, الخ الخ الخ
التعليقات بأعلى الاصوات و الحدة لا يمكن مداراتها: اشعر ان الجميع منخرط في خناقة كبيرة لا افهم كوعها من بوعها

ادخل عن بلكونة الجيران, اتفقد اخوتي, علي لم يزل مرعوباً و يصر على اسنانه, وغسان غفى حيث كنا متكومين انا و علي اثناء الليل

أسأل علي: بدك نفل؟ يجيبني: انتي ما بدك؟

اشعر بالذنب حقاً, اتفاقنا على البقاء كعائلة في بيتنا _والذي لم يكن علي محبذاً له اساساً_لم يأخذ بالاعتبار اثر قصف من مستوى مجزرة على بعد شارعين منا. اذا بقينا , قد يحدث لعلي شيء ما.و اذا ذهبنا: هل تكون خيانة؟ افكر مع نفسي, و علي يطالبني باجابة: بدك تبقي؟


اغير الموضوع ,اقول له ان بترا اتصلت بي من مصر حين كان نائماً بعد منتصف ليل امس و اني تفاجأت من ان الخط "لقط"معها

يسألني: انتي باقية عشان تتأكدي انو رح تجيكي تلفونات دعم يعني؟

يتركني غاضباً و يذهب الى حيث ماما و الجيران لا يزالون يديرون مدبرة النحل بأصواتهم و نقاشاتهم العالية, ألحق به, تمسكني اخت جارتنا التي تكبرني قليلاً بالعمر و بأطفال ثلاث عند باب البلكون, تقول لي: جوزي بدو يروح: شو رأيك بروح معه؟

انظر اليها و الى طفلتها التي لاعبتها ليلة امس حتى ضحكنا وسط استغراب الجميع" هيدا قرارك, بس كونوا دايما سوا انت و جوزك و ولادك"واحضنها بقوة, تبكي على كتفي, وابكي انا معها قليلاً ثم امسح دموعنا. تقول لي: مش متحملة كل هيدا. انظر في عينيها واقول لها : يللا لكان حضري حالك,و انطلق معها اساعدها في لملمة اشياء اولادها

في تلك اللحظات الغريبة, اقرر انه يجب ان لا نبقى: ليست الوطنية ان تقيد حركة نفسك في مربعات اقل من 4 جدران لغرفة اذا ما بقينا هنا, خاصة ان امي و علي باعصاب تشارف الانهيار منذ الان, والكل يجمع ان الحال لن يكون سهلاً و لا قصيراً

بعد توديع رانيا و اطفالها, يسكت الجميع و يجلسون كمن وقع من علٍ في غرفة القعدة. اوصلها الى السيارة واودعها هناك متمنية لها السلامة. تحلفني ان ابقى على تواصل معها لأطمئنها عنا, وان "ديري بالك ع الكل لأنك قوية يا ملاك"اهز رأسي و الغصات تخنقني.و اركض الدرجات الى حيث ماما: اصرخ بها: يللا نمشي, عم يضربو جسور و كلما تأخرنا بيصير الوضع اصعب ع الطرقات. ترد عليّ بتوترها: ما تصرخي علي, بعدين هلق صار بدك تروحي؟


اجيبها بتحدٍ: ايه بدي اروح, بديش اموت هون انا


علي ينظر الي غير مصدق, اقول له: فيق غسان, انا طالعة اضب الاغراض اللي بتلزمنا


يمسكني جارنا الدكتور: انطرينا منطلع كلنا, رح نضب اغراضنا نحنا كمان, منمشي سوا

ماما تصرخ بي على الدرج, لا ارد: اصل الى البيت لاهثة, وأبدأ برمي اغراض لكل منا في شنط و اكياس, افكك جهاز الكمبيوتر, امسك كيساً اضع فيه كتبي المفضلة و بعض دفاتر واوراق فيها كل ما انا, و كذلك شهاداتي واوراقنا الثبوتية

فجأة ارى علي و ماما وراءه و كلنا يجمع ضرورياته, غسان سيأتي لاحقاً و"بوزه شبرين", وينتقدني: بعلمي بدك تصمدي؟
اقول له: لا من حقي و لا من حقك نرعب ماما و علي, الصمود مش جغرافيا, ,وهلق مش وقت حكي, رايحين يعني رايحين يا غسان

البراد فيه اكل, نفرغه للجيران الذين بدأت بيوتهم تضج بالوافدين من قرى الجنوب من اقارب و صحبة
نترك مفاتيح البيت معهم كذلك, خزان ماءنا ممتلئ , سيمكنهم الاستفادة منه اذا ما انقطعت الماء, وكذلك يمكن لمن يجروء ان ينام في شقتنا, سيكون هناك الكثير من الاسرة الفارغة عما قليل

نبدأ بتوديع جيراننا: اهلنا و عشرة العمر الطويل الذي قد ينقضي قريباً
الدموع و الغصات تتآكلنا جميعاً: نحن الذاهبون على الباقون, وهم علينا


نجلس في السيارة سريعاً وبلا و لا نفس. ماما تفكر بالمرور لأخذ خالتي و طفليها معنا, ارجوها ان لا تفعل: جوزها مسؤول عنهم, اذا صارلنا شي بتكون بدمتنا يا ماما, نحنا اولادك و مسؤوليتك, بس ولا حدا تاني


تبكي و هي تسمعني اصرخ كلامي هذا ,ولكن هذا ليس الوقت الملائم لمراعاة آداب الحديث


الشوارع مقفرة, صور مبوهتة بعد بمجزرة الامس, نلمح عمو عادل, صديق ابي وعائلتنا منذ زمن. نوقف السيارة و اتعلق برقبته بحرارة قد افقدها مع حياتي ربما لو متت في هذه الحرب المستعرة. تلمع الدموع في عينيه, ماما تبكي و علي يستعجلنا بردات فعله كلما سمعنا طائرة ترمي حمولات حقدها في مكان ما, وبوز غسان يتعدى الشبرين

تستشيره ماما بخصوص الرحيل, يقول لها انه يدبر رحيل عائلته كلها كذلك, واننا سنبقى على اتصال اينما كنا, هو العمر و تجارب الفقد و الضياع يجمعهما مجدداً: هذه المرة ماما هي رب اسرة, مثله تماماً,وليس من ابي يخفف الحمل عنها ولو قليلاً

تخبره بأني لا اريدها ان تجلب معنا احداً, يقول لها ان هذا رأي سديد: خدي اولادك و روحي, هلق مش وقت تفكري غير بعيلتك
سأبكي في حضنه ويمسح دموعي في الثواني الاخيرة قبل انطلاقنا في طريقنا الى المجهول

حين تدير ماما السيارة يشتد بكائي, لم اجلب ألبومات صورنا, افكر: لو راح بيتنا, مش رح يكون عنا ولاااااااااا صورة لبابا او لطفولتنا
ثم اقول لنفسي: بس لو متنا نحنا, بيكون في النا صور ع القليلة
الان افكر و اضحك حين اذكر صديق لي قال لي مرة مطمئناً حين اخبرته بفكرتي هذه اني لو اسرت او مت خلال الحرب, فلي صور جميلة ستنفع لتصاميم التضامن او ملصقات الشهداء

تسألني ماما بعصبية: شو في؟شو في؟

امسح دموعي و اقول لها: رح اشتاق للبيت, واسكت اغلب الطريق الطوييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييل الى ما لم نعلمه لحظتها

بحر صور مدجج بالبوارج, والسماء مسقوفة بالهدير, اغمض عيني لا اريد لمدينتي صورة سوى بهائها اليومي البسيط في حضرة التاريخ و في حضن البحر,اقول لنفسي: رح نرجع, اكيد رح نرجع
::
ستكون الطريق حقاً طويلة, كأنها كل العمر: 9 ساعات من الجنون المطلق في تحدي آلات الموت الصهيونية التي تعيث خراباً في كل ما حولنا و تحاول بث ألحان الموت الجنائزية في ذلك التموز الذي كنا نتأمله جميلاً

صور المجازر التي حدثت تطاردنا, والاخبار التي سمعناها في الايام السابقة عن استهداف السيارات _حتى تلك التي تغضبني حين اراها تلوح بما هو ابيض على سقفها_ لا يجعلان المرء مطمئناً انه يترك الموت وراءه حقاً

امي تقود السيارة وسط ذعرنا من هول ما نراه: هذا الجسر الذي اقطعه كل يوم في طريقي الى عملي صار اثراً بعد عين و قبل حاضر لا يبشر بملامح غدٍ قد يكون أصلاً, هذه البساتين التي تزف الينا الربيع قبل الورد بخضرتها صارت ارضاُ بوار تنعب فيها الحرائق, هذه الشواطئ التي لطالما ضحكنا للسعة ملحها على اجسادنا السمراء حين يلوحها الصيف, وعلى شفاهنا حين نتراشق بالضحك صارت مرتعاً لقصف قد يأتيها من اي حدب وصوب

سبابة ماما مرفوعة تشهداً طوال الطريق, وانا في سري اتمنى ان نموت جميعنا اذا ما اصابنا شيء, او ان نحيا جميعاً
كان التفكير باحتمالات ان ارى احد من اهلي مصاباً او مبتوراً او بعاهة دائمة كانت يرعبني, فكرة ان اكون انا عالة على اي منهم ايضاً كنت استصعبها حد تمني الموت

نعبث بالراديو, التشويش يمنع التقاط بث اي محطة ما عدا صوت الشعب(وهي للمفارقة اذاعة الحزب الشيوعي اللبناني) التي استخدمها الصهاينة لبث دعاية تحريضية سخيفة نصها كان "اين هو خسن؟ انه هرب!ان خسن مختبئ في مغارة تحت الارض و قد ترككم لتموتوا من اجله"
وطبعا خسن المقصود هو السيد حسن نصر الله
نضحك بخجل بداية, ثم نصخب بالضحك على تفاهتهم هذه
لاحقاً سيمطرنا الصهاينة بمناشير غبية تحرض على المقاومة وبدعايات و اتصالات هاتفية تظل تعيد ولا تزيد في نفس الكلمات المضحكة

الان اتمنى لو ان لدي تسجيلات لاصواتهم و ركاكة عربيتهم , كانت تلك فواصل كوميدية حقاً تقوينا بها على مجازرهم لأنها كانت تخبرنا اي مدى من الهزيمة قد بلغوه ليتقولوا مثل هذه التفاهات

نقطع طريقاً غريبة عجيبة لنصل في نهاية المطاف الى قرية "بيصور" القريبة من مدينة عالية الجبلية. الان حين افكر بالخارطة الجغرافية لمسيرنا انذاك, افكر كم بشع ما مررنا به

حين وصلنا الى جزين, سمعنا عن مجزرة اصطادت فيها الام كامل سيارات على جسر الغازية بفارق اقل من ساعة بعدما قطعناه
امي نعانق جارتنا_زوجة الدكتور_ وتبكيان وسط دهشتنا, نحن الاولاد,: مفروض يكونو مبسوطين لانو نحنا ما متنا, ليش عم يبكوا؟

نغير الجو بشراء شوكولاته و نشبيس لأن بطوننا خاوية, تنظر الامهات الينا بتطليعة "الناس بالناس و انتو بشو", علي يستعيد بعضاً من مرحه المعهود ويقول ببراءة"جوعانين, شو يعني اذا ما متنا بالقصف منموت من الجوع"

نضحك بصخب, انظر في وجوه اخواي و امي تسمح دموعها, اتنفس الحياة ملئ قلبي: فبرغم كل شيء,لا زلنا احياء و نضحك


::
ويتبع كمان و كمان

ليست هناك تعليقات: