"ماما ليش جبتينا لهون؟ هون كمان في منهن"
ومريم ذات الاعوام الثلاث تقصد ب "منهن" القنابل المضيئة التي رأتها في بنت جبيل حتى اليوم الثاني عشر من العدوان قبل ان تتمكن امها من النجاة بها و اختها من الجنون المستعر في تلك القرية الجنوبية التي كانت قبل ايام الجحيم هذه وادعة و رائعة.
مريم تغفو باكية في حضن امها , هي تريد اباها الذي "بعدو بالضيعة عم يعمل واجبه" هكذا تجيب امها بكل بديهية كأنها تلقي تحية صباح الخيرو حين نسألها اين زوجها.
تأتي فاطمة, اخت مريم ذات الاعوام الخمس قرب امها, وتهمس" يا امي, رح يقصفوا هون كمان؟"
نتطلع حولنا, نحن الكبار, ليس ما يوحي بامكانية القصف هنا, فلماذا تخاف فاطمة؟
تقول لها امها و نؤكد نحن على كلامها "لا حبيبتي , هون ما بيقصفوا"
تخبرنا امهما ان البنات تعودّن منظر القنابل المضيئة في القرية, وللآن يعتقدن ان الاضواء المتناثرة على رؤوس الجبال المحيطة بالقرية التي تهجروا اليها في الجبل, قنابلاً تخيفهم و تتسبب في جعلهن يتبولن في فراشهن ليلاً كلما سمعن صوت الغارات الوهمية او مجرد مرور الطيران في سماء الجبل الذي لم يتعرض _تاريخياً_لقصف صهيوني معادي.
تضحك "ام البنات" وتقول: صرت عم بستعمل حفاضات لكل القياسات: خمسة و تلاتة
ثم تذهب ببناتها الى الغرفة المستحدثة لإيواء كل عائلة على حدة في المركز الذي نزحن اليه مع افراد عائلتهن من نساء و أطفال, اما الرجال, فكما صرتم تعرفون معنا" عم يعملو واجبهم بالضيعة"
سوء الاتصالات في لبنان بشكل عام ,و بالذات في منطقة الجنوب و خاصة بنت جبيل التي انقطعت اخبارها عن العالم الا فيما يخص المعارك الدائرة رحاها على تخوم القرية بين الرجال الذين يقومون بواجبهم ببساطة و بين افراد لواء "غولاني" المفترض حسن اعدادهم و تدريبهم بحيث ان اسمهم لطالما اخاف الكثيرين لمجرد ذكره , هذا يجعل من الاتصالات مع من بقي في القرية مهمة صعبة اذا لم نقل مستحيلة.
بعد عودتها من مهمة وضع البنات في الفرشات التي يستعضن بها عن اسرتهن في هذا النزوح الاجباري, أسأل امهن كيف تطمئن على زوجها؟
تسرح عيناها مع النجوم التي تملأ السماء , وتضيء فيهما دمعة قبل ان تتنهد و تجيب" بعرف انو عايش لأنو ما قالوا بالاخبار انو استشهد"
تصمت للحظة ثم تعاود" الله يحمي شباب المقاومة"
يسألها صديق" بتفكري شو ممكن يصير لو استشهد جوزك؟"
لا تترد في الاجابة " بيكون شرفنا و شرف ضيعته والمقاومة"
يعاجلها" طيب و البنات؟"
"البنات؟" تسكت للحظة ثم تكمل: "البنات , بيكبروا ع انهم بنات شهيد"
تتعالى دعوات النساء الجالسات في الحلقة الساهرة حولنا لله ان يرده سالماً لبناته و يحفظه لشبابه و الوطن, تخفي زوجته الشابة دموعها و تتمتم بآيات او ادعية قبل ان تقول بصوت متحشرج "تصبحو ع خير"
بعد انسحابها الرقيق, كملامح وجهها, تحكي النساء الساهرات معنا عن ادبها و حسن تربية بناتها.
تقول قريبة لها" بالضيعة بتستحلي تشوفيها بتحكي كلمة ع فلانة او علتانة, ست بيت حاطة هالبنات وعم تربيهم, الله يرد جوزها و الشباب سالمين"
قبل ان يستلم الحديث لسان آخر و نسمع غارة, ودبيب قصف: تتعالى صرخات الاطفال و تقفز الامهات عن غفوهن الخفيف الى الخارج لتفقد مكان الاستهداف, لا يمكننا ان نحدد ما يحدث حقاً :فوضى اصوات و ضجيج الهلع يصم الاذان, ثم تهدأ اصوات السماء.
اما على الارض, يبقى الاطفال يذهبون بحناجرهم و خوفهم البرئ في نوبات من بكاء تسحب قلوب الامهات و كل الموجودين من متطوعين و شباب الى القلق عليهم هم بالذات من ويلات هذه الحرب.
بعد قليل, حوالي نصف ساعة ليست قليلة ابداً في مثل هذه الاوقات العصيبة, تعود جوقة الملائكة الى نوم قلق.تنضم ام البنات الى حلقة السهر المتوترة, فما من سبيل الى نومها بعد, رغم ان" البنات "ناموا"بحسبها.
نتسامر قليلاً, كل يحلل ويتوقع من جهته, ونحن مستغرقين في الحديث, تتسلل فاطمة بيننا وتشهر طفولة سوألها الحقيقي بوجه نضج كلماتنا الباهتة "مش قلتولي هون ما بيقصفوا؟" ثم تلتفت الى امها بعتب
" ليش جبتينا لهون, كنا ضلينا بالضيعة حد بيي"
هناك ٣ تعليقات:
ليش جبتينا لهون كنا ضلينا بالضيعه حد بيي
جميل استمري
بدي أسمع
ليش جبتينا لهون كنا ضلينا بالضيعه حد بيي
جميل استمري
بدي أسمع
بصرف النظر يا أخ ملاك :)
أنت تكتبين تاريخا حقيقيا ،تدونين ذاكرة انتصار ، وبطولة شعب .
على الرغم من كل الألم ، يظل الأمل بجمال الشعب ، وروحه وقوته .
الجانب ، الآخر المغيّب غالبا في الذاكرة العربية ينبغي أن يظهر ، نحن أمة أثقلتها الهزائم .
وانتظرنا لحظات انتصار الجنوبين ، وكأننا لم نصدق .. انتصر لبنان وأنهزم المحتل أول مرة ، وانتصر لبنان وانهزم الصهاينة مرة أخرى .
وسينتصر لبنان ، على المتآمرين والمتخاذلين ، لأن شعبه الحقيقي لا يزال ولن يزول .
كلنا للوطن ، علي ومريم .. وكل لبنان الأرز والتبغ ، لبنان الحقيقي، سيظل يهتف للوطن ، لفلسطين ، فالقلوب اللبنانية الحقيقية تستمد من فلسطين وشعبها وروحها تعاليم المجد والكرامة .
ما تكتبينه ، هنا شيء حقيقي .. شيء أسمى من مجرد نص أدبي ، شيء يسجل ذاكرة انتصار . انتصار تختزله امرأة بهذا الحجم :
يسألها صديق" بتفكري شو ممكن يصير لو استشهد جوزك؟"
لا تترد في الاجابة " بيكون شرفنا و شرف ضيعته والمقاومة
"
لبنان الحقيقي ، بمثل هؤلاء لن يسقط أمام زمرة من الأنذال والمتخاذلين والعملاء .. ومثلما فسّخ رب الصهاينة ، سيفسّخ رب هاظولاء .
اكتبي ملاك بذات الألق والتلقائية ، ولا تكترثي كثيرا ، حينما يكون مقام الكلام بهذا الحجم ، لا تكترثي بالبلاغة ،البلاغة التي زيفنا بها تاريخنا طويلا ، لا تجعلي اللغة هاجسا .. فليس ثم أصدق من كلام يختزل الحقائق ، كالذي يكون حقيقيا .
"ليش جبتينا لهون, كنا ضلينا بالضيعة حد بيي"
وليس ثم أصدق من حدسك ، وروحك حينما تقودك باتجاه الجنوب، الأبعد من صور والأبعد كثيرا من جنوب النهر .
هذا هو تاريخ المستقبل .. لأن الشعب الذي كتب المجد مرة ، سيكتبه ألف مرة .
وفي يوم ما ، في زمان ما ، نبوءة الذبان .. :)مجددا
ستكونين هناك .. في الجنوب الأبعد من صور
ودومي ..
إرسال تعليق