للسيدة الحاملة الاسرار الثورية

"ام عمار"
الاسم لا يعني كثيراً

هو مجرد اسم اخر يضاف الى لائحة اسماء الشهداء الذين سنعود اليهم مرة اثر مرة ككتلة واحدة "شهداء" و نتغاضى ان كل منهم كانت له حياة كاملة مبهرة بتفاصيلها و احلامها و خصائصها الصغيرة

ولكن ام عمار_ بالنسبة لي على الاقل_ ليست مجرد اسم آخر

بل هي أم عمار

ام عمار التي بكتها حولا كلها

ام عمار التي ابكت كل من عرف بما اصابها و عائلتها لاحقاً
حين توقفت العمليات العسكرية و بات من الممكن ان نبكي شهداءنا بصوت عالي النحيب و الفخر



هي ام عمار, سيدة من هذه البلاد
من قرية المجزرة الرهيبة التي ارتكبها الصهاينة في العام 1948 و صارت نسياً منسياً في غمرة المجازر, حتى جددت مجزرة2006
التماع الدم فيها

لو دخلتم بيتها, ستروون كل شيء "ع حطة ايدها"صورة اخيها الشهيد يحي, الشتلات الاصطناعية التي عاشت زمن الحرب و احترقت اليد التي رتبت مكانتها في الصالة

البيت بيتها , فهي "ست البيت" ولكنها _ست البيت_ ما عادت هنا

لم تكن ام عمار منظمة في اي خلية عسكرية و لا ناشطة في اي مجال سياسي او سواه خارج بيتها و حقلة التبغ وراء مطبخها و زريبة بقراتها

ام عمار كانت فقط ست بيت
ولكن بيديها القويتين كانت تحمل الاسرار الثورية كلها و لهذا قتلوها

كل صباح كانت تأتي الى بيتها من "بيت عمها" الاقل انكشافاً لموقع العباد المشرف على كل قريتها و القرى المجاورة في القطاع الشرقي للجنوب اللبناني

كانت تحلب بقرتيها و تخبز للعائلة و تحضر طعام اليوم للافواه المنتظرة عودتها بحدود الثامنة و النصف صباح كل يوم

يوماً بيوم فعلتها "أم عمار" وحين كان زوجها يحاول ثنيها عن عزمها الصباحي كانت تستنكر :خطيّة! والاولاد ياكلو بايت؟

لحد صباح 6 أب 2006, لم يأكل اي فرد من اسرتها "البايت" اكلوا خبزها المعجون بسرعة و برغبة العودة الى دفء وجودهم حولها

ولكن ذلك الصباح كان لها موعداً مع نار مختلفة عن نار الطابون تعدها للخبيز تحت نظر الصهاينة

النار كانت هي وقودها هذه المرة: وصلت الى الزريبة بعد مناورات _ككل يوم_ تحت شرفة البيت و في حقلة التبغ الذي بعد ينتظر قطافه
بدأت تحضر التبن للبقرات ثم اندلع الصوت

ماذا تراها فكرت قبل ان تصل القذيفة الى باب الزريبة و تحرقها مع الماشية و تفجر قنينة الغاز التي كانت في الزريبة ليتأكد موتها احتراقاُ بجنهم مرتين؟

هل خطر لها عمار الذي اشاعوا استشهاده قبل يوم فقط؟
ام حلمي القلق على الغد؟
ام لعله محمد من مر ببالها؟
او وحيدتها "عفاف" التي تشبهها في جمال و خصال مسؤولية؟
او علي ذا السنوات السبع؟
او يحي الذي يحمل اسم خاله؟

هل فارقتها الروح قبل ان تشهد شهادة المسلمة الصالحة التي عاشت عمرها محاولة ان تكونها؟
او ان تفكر بطيف ابو عمار_شريك الروح المتروك وحده لمواجهة غيابها الكبير؟

ام عمار بقيت في المحرقة ايام ثمانِ قبل ان تتوقف العمليات العسكرية ليجدوا منها "كومة عظام يا وري" كما قالت لنا جارتها من بين دموعها


من وجهة نظر الجيش الاكثر اخلاقية في العالم: كان لا بد من قتل ام عمار
فمن بيتها يخرج كل صباح اسلحة فتاكة: خبز مقمر بالحب و طبيخ "مش بايت عشان الاولاد" وارادة مصممة على تحدي مواقع الموت و ان اصابتها منها نار جهنم

وهذه مقومات الاستمرار اليومي لثورات تشتعل بدم من مثل ام عمار لنمضي في رسم دائرة الحياة و الموت باسماء شهداء يجب ان يخرجوا من ضباب الجمع ليصير كل منهم قصة فردية تحكي اسرارهم الثورية






الخروج من الخريطة

عيتا الشعب
مارون الراس
بليدا
بنت جبيل
حولا
ميس الجبل



ولائحة تطول من الاسماء.
هذه اسمائها: تلك القرى التي لا تكاد تتبينها لصغرها على الخريطة. القرى الواقعات لصق الخط المرسوم ليضع الحدود بين لبنان و "فلسطين المحتلة"

أسماء يلفظها اهل هذه القرى بطريقتهم, طريقة لا يعرفها المراسلون و قارئو نشرات الاخبار ( والامر مدعاة سخرية لاذعة من قبل الجنوبيون فيما يخص "جهل" اولئك المراسلين العرب واللبنانين منهم تحديداً _اقله_ بطريقة لفظ اسماء القرى الذين يُفترض بهم نقل حقيقة ما يدور فيها و على تخومها للعالم)

أسماء يعجبون_اهلها_ حين ألفظها صحيحة بمثل لهجتهم.
فحين أسأل عن طريق "عيثرون" يرد لي الرجل الاشيب سوألي: ول, من المنطقة و ما بتعرفيها وين؟
وعندما اشرح له بخجل اني جنوبية وهذا يكفيني لاعرف كيف يلفظ اهل بنت جبيل بعض الاحرف ( يحكون العامية مع "ظ" و "ث" و "ذ"كما في الفصحى)
يبتسم و يقول بحمية جنوبية لا تُخطئ" يا هلا يا هلا"



نقطع القرى بالسيارات حيناً و على الاقدام احيان, فما عاد فيها طرقات صالحة للعبور.
صارت خراباً, كأنما مرت فيها زوبعة او اعصار. يقول "عبد الرحمن"حين مررنا بمارون الراس أمس: كأنها هيروشيما 2006.

يداهمني الدمع المر, المر جداً: هذه ليست مرتي الاولى هنا بعد الحرب, بل هي الثالثة.
ولكن ان ترى بلادك صارت مزاراً لسياحة الحرب وانت تعرف في قرارتك انها أكبر من الشفقة و انها مشاتل الفخر و العزة يؤلم.
يااااااااااااااه كم يؤلم.

أول مرة كانت الدهشة_ بالاحرى الصدمة_ تملك علي حواسي و تمنع عن عيني دمعة رغم ان ملحها كوى شراينيي
المرة الثانية كنا في مهمة عمل: نسأل عن عدد البيوت المدمرة ( التي تعدت 90% في مارون الراس مثلاً)
في العمل, لا يترك طوفان التفاصيل و ضرورة الدقة في الاحصاء مجالاً للعين كي ترفل ناظرة الى الحجم الفعلي للدمار بعيداً عن الورقة و القلم.
أما أمس, فكان أن رأيت بعين روحي.
لا لم اكن مصدومة امس: فلقد امتصصت الصدمة الاولى بعد تكرار "السياحة" في الجنوب المدمر بأغلبه
بالأمس كنت جنوبية تعود الارض المزروع ترابها " كل شبر بقبر", نفس الارض التي قبلتها فرحاً بدحر الاحتلال عنها ذات نوار.

بالأمس كنت معزية لنفسي و لأهلي هناك.
وما كانوا بحاجة للعزاء, هم العزاء و العزوة و العزة.


بالأمس كان سامي و مهى و غابريللا و جوني و محمد و جيسكيا و عبد يرون الجنوب كما لم يظنوه قبلاً
وانا كنت اراه كما اعرف و لا اعرف

اعرفه مرتعاً للمجد و التحدي, ولا اعرفه تنعق فيه غربان الخراب اناشيدها السوداء.
اعرفه جنوب النصر 2006 و جنوب التحرير 2000 و لا اعرفه خياماً منصوبة أمام ما تدمر و ما تبقى من بيوت كانت قبل اسابيع عامرة بالحياة و الضحكات و الاحلام.

بالأمس, زرت مجدداً القرى المحاذية لفلسطين المحتلة ز كان معي من لا يعرفها قبل

كنت الجنوبية الوحيدة في بداية الرحلة , وحين عدنا على طرق محفرة بالقذائف و ملغمة بالحيرات , كنا كلنا ننتمي الى تلك القرى.
اصبحنا جنوبيين بطريقة مختلفة عن ما تمليه الحدود و الخرائط

فالجنوب بكل قراه العصية اسمائها عن اللفظ الصحيح, ونحن جميعاً خرجنا من الخريطة

لسه جوه القلب أمل

للأسف , بس مش كتير شديد يعني_ انو هالمدونة ما اجى وقت تتخمر براسي و تستوي لتطلع ع خطوط الشبكة العنكبوتية الا بوقت الحرب و ما بعد بعد الحرب

وهوي من خلقة ربنا ( سبحانو يعني) اني مش صحبة و لا شوي مع التكنولوجيا
يعني من الاخير يا دوب بعرف اطبع و ابعت ايميل و هيك اشيا سكر خفيف

يعني صح انو الدنيا بعدها "ما بعد الحرب" عنا بهالنواحي, وصح اني شبه مشردة و اهلي بيشوفوني اقل مما بيشوفوني الناس ع الشريط الحدودي_ والخنازير الصهاينة بمواقع المراقبة بلكي_ بس يعني حتى لو مش هيك الوضع و الانترنت تحت ايدي ليل نهار, ما بيكون في كتير فرق بشكل المدونة و لا رح تكون مزوزءة ( كيف مزوزءة هدي؟ طلعت كتير لبنيية) يعني بدها القصة صبر مني _ ومن اللي ممكن يشوفو بالصدفة هالحكي_ لحتى اصير افهم بقصص الصور و الاغاني

طيب ليش كل هالمقدمة؟
ببساطة, مش لاني بعتذر مثلاً عن انو عنوان هالتدوينة هو من اغنية "البحر بيضحك ليه" بصوت الشيخ امام و كلمات نجيب سرور, بس النهفة انو ما في اغنية بالتدوينة و لا حتى قريباً رح يكون في اغنية بكل هالمدونة ( لاني ببساطة بطيئة بالتعلم بما يخص التكونولوجيا و لاني مش ببساطة عم بكون مشغولة لدرجة انو ممكن ما ارجع اكتب الا لاوقع ع انترنت و هالشي مستبعد الا لما بجي ع بيتي)

القصة وما فيها, انو مجرد وجود هالمدونة هوي تأكيد انو بعد في أمل, بالقلب او بالكبد او وين ما كان

بس الامل موجود, بدليل انو جنابي _شخصياً يعني, شوفولكم هالشغلة شو كبيرة_ بهاللحظات عم بطبع هالاحرف اللي رح تكون تحت نظر اي قارئ للمدونة , عمداً او بالغلط او صدفة. "واحياناً الصدفة بتكون اكثر فتكاً من كل القصف"ع قولة شخص الو عندي كل الود

يعني بحكم صدف فتاكة, جنابي هنا الان ( مش عنوان رواية عبد الرحمن منيف اللي ما بقدر اقرألو لأني مخبولة يمكن او يمكن لأنو اسلوبو جاف و معقد ) ايه , كنت بدي اقول انو وجودي هون ع كرستي اللي بتوجعلي ضهري من طول القعدة عليها قبالة جهاز الكمبيوتر اللي تحول مؤخراً ل"جسم غريب" بالنسبة الي بعد طول الانقطاع عن اي شكل من اشكال الحضارة( اللهم ما عدا حضارة الدمار اللي تسبب فيها الجيش الاكثر اخلاقية في العالم بجنوب لبنان الواقع شمال فلسطين المحتلة) وجودي هوي بحد ذاتو دليل امل عظيم

ورغبتي انو ارجع اجي عشان اكتب بهالمدونة هي كمان انجاز للامل العنيد, عنيد بدليل انو بيضل يشحننا لنعمل اشيا بعد رغم اننا منكون بلحظات كتير بعاد عن مجرد احتمال الحياة للحظة الجايي

طيب شو لازمة كل هالحكي؟
زي ما قلت: هيدا "بس حكي" وبما انو هيك وبس, فالموضوع مش متحمل فذلكات كتير

صح هي خبرية التدوين كلها مفذلكة شوي بالنسبة الي, بس يعني بهاللحظة مش مهتمة كتير بالتنظير للاشيا و قيميتها
هلق مضغوطة كتير و مش عايدة اتحمل من اللي صارلي من 12 تموز عم بشوفو

بدي احكي
ويمكن كل الحكي يطلع فراطة ع قولة الرجوب _طز ع راسو و راس اللي زيو بلبنان و فلسطين و كل دحشة او حزق بهالكوكب

بس يعني انا بدي احكي
وفيكم" انتو قراء العمد او الغلط او الصدفة اللي ما بتموت ولا بتشق الجسم مليون شقفة, بس بتوجع كتير جوه بالروح, فيكم تسبوا لجنابي او تقولو "حرام" او ببساطة تفرقوني بريحة طيبة و تتركوني "أقر" هون لحالي

شو كمان؟

زهقت اليوم
بطلت تعودة انو اقدر انام ع سريري و لا بوجود مكيف و كهربا
يعني مبارح عم بسوق بصور راجعة ع البيت, بس عنا الشوارع مضواية!!!
استغربت
صارلي فترة مهمة بسوق او حدا بيسوق فيي ع الطفيش
سواقة بتعتمد ع نوع من الاستدلال من الذاكرة و الحدس اضافة لاضاءة السيارة اللي كتير مرات بتكون عامل نرفزة و انت بتسوق بطرقات عارف انو الصهاينة يمكن كاشفينك عليها, اكتر مما بتكون اضاءة مساعدة

كل الحضارة بزمن صور مثلاً صارت غريبة عني
ما بعرف كيف بدي استعيد القدرة ع التفكير بحياة مختلفة عن النمط اللي فرضته علي الحرب واللي اخترت اكمل فيه ما بعدها
اليوم صحيت 8 و نص, وهالشي بيعتبر رفاهية عالية المستوى للي متعودة تفيق مع صياح الديك
ما في توزيع مهام ولا انطلاق ع شي قرية او تحضير مواد او اي نوع من الشغل
في بس اني بقدر اعمل شو ما بدي

مبارح كنت مفكرة انو لما يصير عندي خيار انو اعمل شو ما بدي, مش رح الحق اشيا ببالي اعملها
كنت بدي اقص شعري واسبح و يمكن اروح شي محل اسهر ويمكن تتطور القصة معي و ابلش ارقص واحكي شي سبعين ساعة مع ماما و اصحابي من خارج دائرة الحرب و ما بعدها
بس اللي انا شخصياً مفاجئني كتير هوي انو كل اللي بدي اياه هوي انو اقعد اكتب عن الحرب و اللي عم بشوفو

يمكن لانو عنجد صرت زي الناس اللي عم بشوفهم كل الوقت: بحاجة للحكي

والحكي علاج بحد ذاته, بس من شو انا بدي اتعالج؟
شو بيعرفني, معي بعد كل الباقي من عمري لاعرف من شو بدي اتعالج
بس القصة هلق انو حسيت بدي احكي
مش لاتفذلك و انو يا عالم اشهد علينا و غزة و ع كل فلسطين و لا انو بدي اسجل بهاللحظة تحديداً اي نوع من التوثيق للي عم بعايشه يوميا

بدي احكي و بدي اقول لحالي _ قبل ما اكون عم بقول لاي حدا _اني بخير و انو رغم كل اللي صار بعد في بقلبي امل وبعد في جواي , هيك جوه جوه شي اخضر لا قدرت عليه الحرب و لا ما بعدها ورح يضل اخضر

يمكن بفعل صدفة افتك من كل القصف لأنو ببساطة هالشي لسه قادر يحس بود و بغضب و بسيل من مشاعر متناقضة بس حقيقية كتير و صادقة كتير
يعني لسه في انسان, والاحلى بكل الخبرية انو في متلي متايل

وهيدي مش صدفة : هيدي قدر

زمنان في 5 دقائق

بين العباسية و صور اقل من خمس دقائق بالسيارة
بين عيتا الشعب و رميش اقل من خمس دقائق بالسيارة

بين العباسية و عيتا الشعب مسافة كبيرة بالسيارة
بين صور و رميش مسافة كبيرة بالسيارة
مسافتان تتعديان الدقائق الخمس

ولكن عيتا و العباسية تنتميان لزمن واحد
وكذلك صور و رميش


لعيتا و العباسية زمن من غبار و ظلام و ترقب ليلي و يومي, وتفاصيل ويوميات انقلبت حد اللاعودة الى ما سبق ابداً

لصور ورميش زمن من اضواء و سهر وتفاصيل تغيرت , ولم تنقلب حياة ناسهما تماماً وقريباً تعاودا نمط حياة "طبيعية"

خمس دقائق و سيارة تكفيان للتقلب بين زمنين



كم اتمنى لو عندي حمار ينقلني ببطء بين العالمين فأتحضر كل مرة للصدمة الحضارية التي ستصيبني عما قليل

قليل اكثر من خمس دقائق